لا أحد يعلم لأبي حيان التوحيدي لُغةً طِفلةً ترعرعت حتى بلغت قمة العقل بل كانت هي هي ناضجة كما خُلِقَت أول مرّة وبقيَتْ بلا شيخوخة.
تراعي حاجتنا لقوة اللغة، كإكسير خلود وشباب دائم نزاول الحياة به يجسّد ذلك قول التوحيديُّ في مقابستِهِ الحاديةِ والثمانينَ : سمعت أبا سليمانَ يقولُ: الخيرُ على الحقيقةِ هو المرادُ لذاتِهِ..والخيرُ بالاستعارةِ..هو المرادُ لغيرِهِ.. فالذي يرادُ لذاتِهِ فقط بمنزلةِ السعادةِ والذي يرادُ لغيره بمنزلةِ الدواء والذي يرادُ بذاته ولغيره بمنزلةِ الصحة.
فكم يجدر بنا أن ننتقل باللغة من علل الصمت إلى ضجيج وجودنا المتحضّر
فهذا اليومُ مشهودٌ ليسَ لأنَّ الجمعيةَ العامةَ للأممِ المتحدةِ أدخلتِ اللغةَ العربيةَ ضمنَ اللغاتِ الرسميةِ..ولغاتِ العملِ، في عام ألفٍ وتسعمائةٍ وثلاثةٍ وسبعين
بل هو اعترافٌ للعربيةِ بمكانتِها العَلِيّة، وأصالتِها وقِدَمِها بينَ لغاتِ العالم، اعترافٌ لا تَسْمو به العربيةُ الضاربةُ في جذورِ التاريخِ، لقد ظلَّتْ تكبرُ فتزدادُ معَ السنينِ جَمالا، وتكسو صاحِبَها هيبةً وجَلالا، وهي تضيفُ إلى المعاني رَوْنقها، وتَصبُّ في الأسماعِ سِحرَها وعُذوبَتَها، العربيةُ البحرُ، المضيئةُ مفرداتُها نجومًا في سمائِها الصافية.
التوحيدي كان العربية: صوتها وصورتها وإيحاءها ورُوحها وخطابها..قيلها وقالها..فلسفتها وأدبها والتصوف فيها.
إن العربيةَ عندَه عالميةٌ..فهي اللسان ُ وبنتُ المحاكاةِ لديه وهي التي تُثبِتُ العدالة وهي التي تعطي الحكمة ..ونحن نسمعُهُ يُثني على العربيةِ في إمتاعِه فيقول:(ونعوذُ بالله أن نكونَ لفضلِ أمةٍ منَ الأممِ جاحدين.. كما نعوذُ أن نكونَ بنقصِ أمةٍ من الأممِ جاهلين..فإنّ جاحدَ الحقِّ يدلُّ من نفسِهِ على مَهانةٍ.. وجاهلُ النقصِ يدلُّ من نفسه على قصورٍ..وهذا هذا)
التوحيديُّ الذي بلغَ التسعينَ..بعدَ أنْ قضى عُمرَهُ في التأليفِ والنسجِ والمراسلةِ.. يُقدِمُ على إتلافِ أعمالِهِ بنفسِه...كنوعٍ مِنَ التوبةِ والإنابَة أتراهُ أحرقها لنعرف أن اللغة ليست أوراقًا وصفحات بل هي الواقع الذي لا يُرى بخمسٍ من الحواس، منْ كانَ يَدري أنَّ هذا الضوءَ الأولَ في النثرِ أشعلتْهُ خطيئةُ الكتابة بل فضيلة الإنسان فيه..هو فقط كان يُعلّم أن الحقّ لا يعطى لمن يسكت عنه سواء أناله أم لم ينله.. لو أن تلك الفكرةَ لم تخلقْ في ذهنهِ ذلكَ التعبْ..لما بقيَتْ لنا جواهره التي لا تقدر بثمن ، رغم ضيق ذات اليد ، بدا بعد قرون من الزمن ثريّا وبيده سلطة القلم
مضت قرونٌ طويلةٌ..منذُ القرنِ الرابعِ الهجريِّ..وبقي ما بقيَ من مؤلفاتِهِ نِتاجَ روحِ الحياةِ الفكريةِ
لم يفقدْ أبو حيانَ التوحيديُّ حواسَّهُ كما تُفقَدُ اليوم..
فهو في شبابه كهلٌ حكيم يُبغّض الظلم ..وفي كهولته شابٌّ يافعُ اللغةِ وبها عليمْ..ناضرٌ ..لا منتصفَ لديهِ..فطعمُ الفقرِ عندَهُ مرٌّ..وطعمُ الكتابةِ لاذِعٌ.. وطعمُ الغِنى معَ العِلمِ عَسلٌ وشهد، حينَ يكتبُ..يرعى الأفكارَ ككائنات فيقدّم لها تارة علفًا من قذارة الواقع بينما ينتقي ألفاظه من بساتين اللغة أزهارا، فتنضمُّ باقاتٍ معطرةٍ بما نطقْ، وتنتظمُ ببلاغتها حبرًا على ورقْ..فـ:« ليسَ القلمُ كاللسانِ، ولا الخطُّ كالبيانِ...ولا ما يذهبُ معَ الأنفاسِ كما يبقى وَسْمُهُ بينَ الناسِ» كما يقول التوحيديُّ نفسُه.
يكفي العربيةَ هذهِ المناظراتُ الجدليَّةُ..والروحُ المتسائلةُ الحيّانيَّةُ..فهوَ في كتابِهِ الهواملِ والشواملِ..ينفتحُ على مختلِفِ إنجازاتِ الثقافةِ والمعرفةِ في وقتِهِ، بسَوْقِهِ الموقفَ ونقيضه..ويوردُ أخبارَهُ حججًا واقعيةً، ينتقلُ بها من البسيطِ البديهيِّ..إلى المعقَّدِ المركَّبِ
فيقول:«النثرُ أصلُ الكلامِ. والنظمُ فرعُهُ..والأصلُ أشرفُ منَ الفرعِ..والفرعُ أنقصُ منَ الأصلِ..ولكلِّ واحدٍ منهما زائناتٌ وشائنات»
لأننا بالنثر نكشف الخداع، وبالشعر نكشف المعاناة والأوجاع نقهر الصعاب بالكيان الأقوى على وجه الأرض، ألا وهو لغة البيان ولغة الشعر التي تمثّل الحقيقة بكل ما أوتي الإنسان من ذكاء، فباللغة العربية لن تضغط على الرحى بل ستلامسها
لا ندري معَ التوحيدي..أكان يؤدّي موسوعيَّتَهُ الثقافيةَ بعربيتِهِ الفذَّةِ أم هو يؤدي لغتَهُ العربيةَ بموسوعيَّتِهِ الثقافيةِ.. مرةً يكتبُ «الكلامُ على الكلامِ صعبٌ»...ومرةً يدوِّنُ بِحِذْقٍ أقوالَ أساتذَتِهِ..مقتربًا منَ الطبيعةِ الإنسانيةِ، وفي أخرى يقولُ..«الإنسانُ قد أشكلَ عليهِ الإنسانُ ... فإنك إنْ عملتَ قالوا راءَيْتَ..وإنْ قَصَّرْتَ..قالوا أَثِمْتَ..وإنْ بكيتَ قالوا شَهَّرْتَ..إن ضحكتَ..قالوا جهلتَ..وإن نطقتَ قالوا عَيِيتَ.
نحن نستدعي دررِ التوحيديِّ في دورنا بطلبِ العلمِ والتعلمِ..نستدعي أصابعَه التي نسجت لنا الأدبَ حُللًا من حريرْ ، من يلبس منها له عيشة البهاء ، يعرف كيف يكون باللغة صديق وباللغة عدو ، ويعرف باللغة كيف يوقف نزيفه واستنزافه.
ففي كتابِه أخلاقِ الوزيرينِ كان ثائراً بأناقة، حاربَ الفقرَ بكلِّ ما أوتي من لغةٍ..إذ هجا بنثرِهِ ..صادقا..ولم يمدحْ كاذبا..
فهو المتعالِ عن فَجاجةِ الحياةِ اليوميةِ، وسوقيةِ الكلامِ اليوميِّ العابرِ، بلغةٍ ..إذا ذمّ بها مُدحت..وتخلدت وبقيت..
يقول في بابِ حمدِ المحسنِ وذمِّ المسيءِ من كتابِه مَثالبِ الوزيرينِ: «ومتى كانَ ذِكْرُ المهتوكِ حرامًا.. والتشنيعُ على الفاسقِ منكرًا..إنما غَزُرَ الأدبُ..وكَثُرَ العلمُ وجَزلتْ العبارةُ لِمَا وقفوا عليهِ من أنباءِ الناسِ وقصصهم في خيرهم وشرهم"
ويكتبُ أنَّ حرمانَ المؤمِّلِ ككفرانِ النعمةِ.. كما استغرقَ منه موضوعُ أن العالِمَ يجب أن يُعطى..الكثيرَ من المناقشةِ..
فهو يذكرُ ما قيل للحاتميِّ: "إنما تُحْرَمُ لأنكَ تَشْتُمُ"..فيجيبُ الحاتميُّ..كما يَروي: "وإنما أشتمُ لأني أُحْرَمُ".
بقيتْ مؤلفاتُ أبي حيانَ التوحيديِّ ..وكلماتُهُ... وبقي الجشعُ في أصحابِ السيادةِ..
فالبذلُ لا يزالُ ليس لأهلِهِ..والصديقُ بلا عطايا ولا كَرَمٍ..كما يصفُ ذلك التوحيديُّ الثائرُ على كلِّ ما يسلِبُ الإنسانَ إنسانِيَّتَهُ..
لم يُصَبْ -كما نُصابُ اليومَ- بالتخلفِ العقليِّ والشللِ الرباعيِّ والضغطِ المرتفعِ..بل كان مسؤولا عن ترجمةِ الخيرِ والشرِّ ببيانِهِ وسحرِهِ.
يقول في الإشاراتِ الإلهيِّةِ- وهي تَخَاطُبٌ عنيفٌ بينَ متكلمٍ ومخاطَبٍ متشابِكَيْنِ..يتبادلانِ الأدوارَ دونَ وصولٍ إلى نقطةٍ ساكنة..
يقولُ: «أما تراني يا هذا ..كيف أداريكَ بالرفقِ..وأداويك بالحِذْقِ..أدعوك بالنثرِ إلى أن تنثرَ ما قد زَيَّفَكَ وأفسدَكَ..ثم أعطِفُ عليك بالنظمِ..إلى ما قد شَرَّفكَ ورفعَكَ.. ولا تعجبْ من فراغي لك..فلعلك إذا أحببتَ ندائي..وفهمتَ دعائي درجتُ معكَ وسلكتُ منهجَكَ..فإني من حيثُ أناديك مُجابٌ..وأنت من حيثُ تجيبُ مُنادًى»
عاشَ التوحيديُّ ارستقراطيَّ الفكرِ..فقيرَ الحالِ بلا صديقٍ..فللصديقِ لديه صفاتٌ كتبها في كتابِهِ الصداقةِ والصديقِ..وأنّى يجدُها في أحد!...
ستونَ عاماً مذْ عَقلَ..ما غدرهُ إلا مَنِ استوفاهُ..ولا كدَّرَ عليه إلا مَنِ اصطفاهُ، ولا أمرّ له إلا مَنِ استحلاهُ..ولا أهملَ أمرَهُ إلا مَنِ استرعاهُ.
لم يُرْهِبْه معَ لغتِهِ خصمٌ..ولم يتوانَ بها عن دَفْعِ باطلٍ..وتلكَ كانتْ سعادَتَهُ وغَضَبَهُ.
لقد تخلّفنا بلا لغة عالية عشرات القرون حتى أصبحنا نبدو كمتعذّرين عن الفَهم لا نُسمَع ولا يعبَأ بنا أحَد فإن كان التوحيدي أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء فما هذه العبارة سوى وصفٌ للّغة العربية.