ذلك المصقول بأردنية بليغة، لايبارح ذاكرتي، ويرسم فيها دائما وطنية من النوع الذي يفهم معناها بدقة دقات قلبه، وسماحة عقله وعمق مشروعه القومي.
بالنسبة للراحل طارق مصاروة كان الاردن درة العرب وخلاصته.. كان يضرب بسيفه ويعلم ان الاردن لايملك من قوة سوى تاريخه الموصوف بانه تعلق الاردني بجذور ممتدة الى أقصى مايحد قدرته على الرؤية.
الاردن بالنسبة لطارق كان الفرح الذي مهما جلس في الحزن فلن يقوى عليه. علمني طارق ان هنالك دائما ماهو اكبر من الكرة الارضية ومن الاحساس بالخارطة المرسومة، انه الوطن، ولهذا شع الاردن في قلمه، رسمه حلم، وفي الحلم يتمكن الكاتب من الوصول الى مايريد وما ينسج من افكار.
لم يكن طارق صحافيا فقط، كان مدمنا على كتابة أفق يراه في أردن يتحرك في الخير، والحراك بركة كما كان يقول الملك الحسين الراحل.
شغف طارق هو صناعة الكلمات المبنية على صورة المستقبل الواعد. لم يكن يملك سوى قلمه الذي ساهم به في كتابة المقالات التي في كل منها مشروعه ورؤيته ومعنى عقله النير..
لا أعرف اليوم لماذا أكتب عنه وهو حاضر دائم في ذاكرتي.. لكني اعرف ماذا كان سيكتب في اللحظات العربية الصعبة، وفي حماية الاردن من أي مصير. كان يرى، بل كانت بصيرته تعرف كيف سيكون الآتي، وكيف سيتم حماية الوطن الواقف كأنه شجرة نخيل لاتؤثر فيها العواصف.
عاش طارق مثل حلم جميل، وكان كريم النفس، حالما ولكن بواقعية. صبورا على الملمات العربية لكنه لايرحم التنكيل بها، اذا ما جاءت اخطاء مقصودة او عدم قراءتها بفهم ووعي. كان الاردن كله يقرأه يوميا، وفي يوميات طارق كل جديد، دون التخلي عن أردنيته التي هي دار واسعة لحلمه القومي في كل أبعاده، التي انتظم اليها ورسمت فيه حلما جميلا كما كان يقول.
كنت في بيروت في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، وكانت شوارع تلك المدينة مصادرة من ميليشيات تتزاحم على حكمها فتقتل أهلها ومن رفع رأسه احتجاجا.. وفي هذا الجو المقيت والصعب علينا ونحن نختبيء في الملاجيء احيانا، جاءني من يقول لي ان الاستاذ طارق مصاروة يقول لك أخرج من لبنان الى الاردن ومكان عملك مؤمن. كان في ذلك الوقت قد أصبح رئيس تحرير لصحيفة "صوت الشعب"، وكان يأمل ان يصنع منها منبرا متقدما بل الصحافة كما كان يأملها.
قبل وفاته بشهور وكان وضعه الصحي قد تراجع، وبدا أنه لن يعود الى حالته الطبيعية، زرته في شقته، بل جئت خصيصا الى عمان من أجل السلام عليه.. كان ما يزال ذاكرة متحركة يأبى التنازل عن أفكاره التي عاش عليها، وبها قدم نفسه عبر الكلمة والحضور المباشر بأن أردنيته فلسطينية ايضا، لكنها في العمق السوري الكبير منارته.
سيظل طارق واحدا من كبار الاردن، الذين عاشوا على حلم وطني كان مقياسا لكل أحلامهم القومية.