اول قرار استراتيجي في عهد الحسين (رفض حلف بغداد)
أ.د. سعد ابو دية
12-04-2010 06:28 AM
* قام «جون فوستر دلاس» بزيارة (12) دولة في المنطقة التي اعتبرها نصف سكان العالم غير الشيوعي وان فيها ممرات المياه ومهد الديانات و60% من احتياطي النفط.. وفكر بمشاريع مائية.. والهبت زيارته التنافس مع السوفيت
ما هو القرار الاستراتيجي:
يعتبر القرار الاستراتيجي اهم نوع من انواع القرارات وهي التكتيكي والتطبيقي والقرار الاستراتيجي مجال تأثيره اوسع ويؤثر على عناصر عديدة مثل الرأي العام والاقتصاد والجيش والعلاقات مع الدول الاخرى عربيا او دوليا، إذا اثر على عناصر سابقة فهو قرار استراتيجي.. ويعتبر قرار رفض (حلف بغداد) اهم واول قرار استراتيجي في عهد الحسين.
ظروف القرار:
رأى الاميركيون ان عليهم ان يسدوا الطرق امام السوفيت بخاصة بعد ان زار (جون فوستر دلاس) وزير الخارجية الاميركية اثنتي عشرة دولة من دول البحر المتوسط وحتى الهند ولاحظ ان فيها ممرات المياه وانها تشكل نصف سكان العالم غير الشيوعي وان فيها 60% من الاحتياطي العالمي من النفط وهي مهد الديانات ورأى (جون) ان على الولايات المتحدة ان تنهج نهجا غير منحاز طالب بدفع السلام في المنطقة وان تكون اسرائيل جزء من المنطقة وليست غريبة عنها.
كان الاميركيون يتقدمون للمنطقة وكان السوفيت اكثر اندفاعا في 27/9/1955م وقعت مصر اتفاقية تجارية مع تشيكوسلوفاكيا بحيث تعطي لمصر سلاحا مقابل بضائع دون اي شروط تجارية وبالرغم ان عبدالناصر (الرئيس المصري) اعلن ان الصفقة لن تفتح الباب امام النفوذ السوفياتي فان ثائرة الغرب ثارت وبخاصة بعد اعلان مصر في 17/10/1955 ان الاتحاد السوفياتي قدم قرضا لبناء السد العالي وفي سورية تم تبادل التمثيل الدبلوماسي مع الاتحاد السوفياتي ووقع السوريون اتفاقية اقتصادية وزاد الطين بلة فشل محادثات جنيف بين القوتين وكانت ترتكز على نزح السلاح.
ركز (جون دلاس) على موضوع الماء (والري) باعتبارها مشكلة وقدم حلولا لاقتسام مياه الاردن وتوطين اللاجئين.
ميراث الملك المؤسس مع نوري السعيد:
يتذكر قليلون ان نوري السعيد عمل مع الهاشميين طوال فترة حكمهم في العراق وكان دائما في مركز متقدم منذ عام 1921 وحتى عام (1958).
والواقع ان الملك المؤسس عبدالله بن الحسين قاد حركة التغيير في النظام العربي وساعده نوري السعيد، كان الملك المؤسس يسعى لاقامة الهلال الخصيب وسورية الكبرى.
تلاحظ ان الاردن والعراق في تلك الفترة كانا في قلب التفاعلات العربية ولكن في عام 1955 تغيرت الظروف وبدا واضحا ان هناك زعامة قوية جدا في مصر وتتزعم معارضة لسياسة العراق في الاهداف العسكرية.
في 6/اذار 1955م اعلنت القاهرة ودمشق والرياض انها لن تنضم لحلف بغداد وانها تعمل على تقوية التعاون.
كان نوري السعيد يحاجج ان الحلف لن يضعف العراق بل يقويه ولا يتعارض مع ميثاق الدفاع المشترك.
اما وجهة نظر الاردن تلخصت ان الحلف يؤمن لها المساعدات الاقتصادية والعسكرية وانهاء المعاهدة البريطانية اذا انضم للحلف.
حاول الحسين اقناع الاتراك في مباحثات 7/11/1955 بتقديم المساعدات الاقتصادية للاردن ولكن الاتراك ابدوا استعدادا لمساعدات عسكرية اذا انضم الاردن للحلف!
في هذه الظروف جاء المبعوث البريطاني تمبلر للاردن وقدم مذكرة وكان يريد اقناع الاردن بالانضمام لحلف بغداد.
مشكلة عرض المذكرة الاردنية على بريطانيا او مصر اولا:
قدم الاردنيون مذكرة اجابة على مذكرة تمبلر التي قدمها للاردن في 12/12/1955 وفيها تطمين للاردن ان حلف بغداد لن يؤثر على الحل النهائي للقضية الفلسطينية ولكن تطمين (تمبلر) لم يقنع بعض الوزراء في مجلس الوزراء الاردني (وخاصة الوزراء من اصل فلسطيني) قدمت بريطانيا للاردن عدة اقتراحات منها:
1- تسليم الاردن اسلحة بـ(6) ملايين جنيه.
2- زيادة قوات الجيش العربي بـ65% عما هو عليه.
3- تلبية طلب الاردن باستبدال المعاهدة باتفاقية خاصة.
الخلاف الشكلي:
وظهر خلاف شكلي ساهم في قضية الموضوع ولم يستطع احد ان يحله وفي 13/12/1955 قدم اربعة وزراء استقالاتهم واستقال وراءهم رئيس الوزراء سعيد المفتي.
كان الاردن قد دخل في تفاوض مع المبعوث البريطاني (تمبلر) الذي جاء يوم 6/12/1955 ليطلب من الاردن الانضمام الى المعاهدة المركزية وهي التي عرفت بحلف بغداد وضمت تركيا وايران وباكستان والعراق من دول المنطقة وطلب تمبلر من الاردن الانضمام وتفاوض مع الحسين مطولا ووافق على مطالب الاردنيين.
لكن الوزراء ترددوا في التوقيع وزاد من ترددهم خشيتهم من ردود الفعل المصرية والعربية، كانوا في قضية شكلية ويريدون عرض المذكرة على مصر قبل عرضها على بريطانيا، كان رأي الحسين انه لا مانع ان تطلع مصر على المذكرة بعد عرضها على الجانب البريطاني وليس قبل ذلك وبخاصة ان الحسين ارسل برسالة لعبدالناصر في شهر تشرين الثاني طمأنه فيها ان الاردن لن يفعل شيئا من وراء مصر.
ومع ان قضية عرض المذكرة على مصر قضية مجاملة فانها كبرت واستمرت، واستقال اربعة وزراء واستقال سعيد المفتي يوم 14/12/1955م.
وجاء هزاع ولم تمكث وزارته اسبوعا فجاء ابراهيم هاشم وطلب حل مجلس النواب وكان الحل غير دستوري لانه لم يوقع عليه وزير الداخلية فاندلعت مظاهرات واستقال هاشم يوم 7/1/1956 فجاء سمير الرفاعي يوم 9/1/1956 واعلن (لا احلاف)!
وفي يوم 19/1/1956 تم توقيع ميثاق التضامن العربي مع سورية والسعودية لتخصيص مساعدات عربية للاردن وفي 9 اذار اعلن الحسين انه ضد الاحلاف وفي 19/اذار رد على رسالة عبدالناصر انه لن يكون مع العراق ولا مع السعودية ومصر وسورية وانه سيلجأ للحياد وفي الوقت نفسه هو مع التعاون العربي.
تبريرات (عبدالناصر):
ادى جمال عبدالناصر دورا غير عادي في تعبئة الرأي العام وكانت حججه قوية جدا وسوف استعرض حجة واحدة على سبيل المثال:
في بيان الرئيس جمال عبدالناصر في مجلس الامة ذكر ما يلي:
قالوا: لو ان مصر كانت في نطاق حلف عسكري لكانت حصلت على السلاح من اقوياء هذا الحلف او لكان هؤلاء الاقوياء قد تولوا مهمة الدفاع عنها ونسى هؤلاء عبرة ما جرى في فلسطين وكانت فلسطين بالنسبة لهؤلاء الاقوياء اكثر من زميل في حلف.. كانت تحت انتدابهم .. كانت تحت وصايتهم.
ولم تدخر مصر جهدا من جهدها الاعلامي في تأليب الرأي العام ضد حلف بغداد.. وكتب الحسين عن الاردن في تلك الرحلة.
كانت تحت رحمة دعاية خارجية ترمي الى التخريب وان الدعاية كانت تتسلل الى اقصى انحاء البلاد وان القاهرة كانت تملك اجهزة للبث عصرية وقوية ولم يكن لعمان في ذلك الوقت سوى جهاز قوته 5 كيلو واط يغطي مساحة نصف قطرها 50كم3.
ويعترف سفير بريطانيا في مصر (هنري تريلفيان) انه قد طلب منه ان يتدخل للتخفيف من الحملة المصرية على دول المنطقة لتخفيف التوتر الذي خلقته هذه الحملة!
الردود الاستراتيجية
المساعدات الاميركية
تدفقت المساعدات الاقتصادية على الاردن في ذلك العام 1956م وكان مجموع المساعدات الاميركية عام 1956م هو 1ر8 مليون دولار وفي عام 1957م وارتفعت الى 1ر22 مليون دولار والى 4ر46 مليون عام 1958م.
والقليل يعرف ان الاردن رفض مبدأ ايزنهاور ومع ذلك اخذ مساعدة على اساس بند اخر غير بنود مبدأ ايزنهاور.
وزارة ائتلافية:
تأسست في الاردن وزارة ائتلافية من الاحزاب ونشط الشيوعيون والبعثيون ووصل نفوذهم الى ضباط الجيش وبدأت متاعب الملك الحقيقية لان هذه الاحزاب شكلت قوى ضاغطة على الملك وحاولت تدعيم علاقتها مع المعسكر الشرقي ولم يرق ذلك للملك لان الاردن كان يعتبر الشيوعية عدوا رئيسيا والحلف كان اساسا ضد الشيوعية ولاحتوائها ولكن ذلك لم يتحقق ابدا.
ادراك الحسين:
كان الحسين يدرك انه اذا انضم الاردن للحلف فان العالم الحر سيحقق نصرا معنويا كبيرا ويقول:
ولقد شعرت باننا اذا دخلنا الحلف فاننا سنحصل على مزيد من السلاح والمساعدات الاقتصادية وستكون فرصة لانهاء المعاهدة البريطانية وستكون فرصة امام الضباط الاردنيين باستلام مناصب قيادية في الجيش بدلا من البريطانيين ولقد اخبرت تمبلر بان الوقت قد حان لتعريب الجيش باسرع وقت.
الاتحاد مع العراق:
واذا كان الملك هادن القاهرة فانه لم ينضم لحلف بغداد فان فكرة الاتحاد مع العراق ظلت شغله الشاغل تاريخيا كان الملك المؤسس يريد توحيد تاج الهاشميين في العراق والاردن لدرجة انه وقعت معاهدة في 14/4/1947م مع العراق لتوحيد التمثيل الدبلوماسي والاساليب العسكرية، كان هذا شغل الملك المؤسس.. وان هذه الافكار الوحدوية بعثت ثانية في تفكير الحسين عام 1958م وتقلد الحكم عام 1957م سليمان النابلسي امين عام الحزب الوطني الاشتراكي وكانت من ابرز اهدافه الوحدة مع العراق ولم تنعكس هذه الافكار في تفكير سكرتير الحزب بعد ان اصبح رئيسا للوزارة.
والخلاصة:
ان (حلف بغداد) كانت بداية ارهاصات التحالف في المنطقة وانه المحاولة الاولى والاخيرة لضم دول عربية في التحالف ويلاحظ ان الحلف اضعف موقف العراق على مستوى الوطن العربي وان الحلف لم يساعد العراق عام 1958م عندما وقع انقلاب 14 تموز وتلاحظ ان التيارات المعادية للتحالف داخل الوطن العربي كانت قوية جدا سواء اكان هذا التحالف على مستوى دولي او مستوى اتحاد وان التيارات المعادية للتحالف والوحدة نشطت في الخمسينات ومطلع الستينات، وانها لم تقم لها قائمة بعد عام (1961) الا في صورة مجالس تعاون وتنسيق وهذا كل ما في الامر ويلاحظ ان العراق كانت دائما هي المرشحة للتحالف او الاتحاد ويلاحظ ان العراقيين ضغطوا على الاردن عام 1955م من اجل التحالف ولكن الحسين ضغط عام 1958م من اجل الاتحاد مع العراق وان الفكرة نجحت مؤقتا ويلاحظ ان الحسين كان اكثر دقة من العراقيين ليس من حيث التعبئة عام 1958 لاتحاد مع العراق ولكن في المتابعة ايضا فقد تابع عن كثب المصاعب التي تهدد استمرار الاتحاد مع العراق وحذر العراقيين وتحدث مع مبعوث الملك فيصل الثاني رفيق عارف عن الخطر المحدق بالنظام في العراق ولم يعر رفيق الامر اهتماما وفي كتاب (مهنتي كملك) وصف الحسين وصفا دقيقا موقف ورد فعل رفيق عارف عندما تمت مفاتحته بالمعلومات الموجودة عند الاردن عن مؤامرة في العراق.. قال الحسين:
وفي ختام الحديث، تمطى وضحك (يقصدالفريق رفيق عارف) هذا الضحك المرح الفكه المعهود لدى كل العرب وقال: يا صاحب الجلالة، اننا جد ممتنون لجلالتكم وانني اقدر جهودكم، ولكنني اريد ان اؤكد لكم بان الجيش العراقي مؤسس على تقاليد معينة وهو على كل حال يعتبر افضل جيش في الشرق الاوسط فهو لم يعرف المشاكل ولا التغييرات التي طرحت حديثا على الشرق الاوسط.
وتوقف لحظة ثم قال:
لدي انطباع بان الاحرى بنا نحن ان نقلق على مصير الاردن فهذا الانقلاب يهدد بلادكم فعلا وليس بلادنا فارجوكم ان تراعوا جانب الحذر والحيطة.
قال الحسين: فصحت به: ولكن لا بد لك من ان تفهم خطورة الموقف والتهديد الذي يلقى بثقله على العراق ايضا.
فاجابني: اؤكد بانني فهمت ولكنني اشك في ذلك ورجوته قائلا: عدني على الاقل بانك سوف تطلع الملك فيصل والسلطات على كل الوثائق التي ابلغناك اياها.
ووعد ذلك وبعد اربعة ايام وفي يوم الاثنين 14/تموز 1958م وقعت الثورة وتحققت شكوك وظنون الحسين وقد فعل ما في وسعه للتحذير.