متى نصل إلى سيادة القانون المدني؟
باتر محمد وردم
12-04-2010 05:43 AM
من المظاهر المعروفة طبيا لردود أفعال المصابين بأمراض الأورام الخبيثة وغيرها من الأمراض القاتلة حالة الإنكار التي يتعامل بها المريض مع حالته محاولا إيهام نفسه والآخرين بعدم وجود مشكلة، أو يحاول تجاهل السبب الرئيسي ويتعامل مع الأعراض وكأنها ناجمة عن أمراض عادية قابلة للشفاء الذاتي كما يتم استذكار الماضي السعيد عندما كان الجسد سليما متعافيا لتعزيز حالة الإنكار.
ما نقرأه ونتابعه أحيانا من ردود أفعال لبعض الشخصيات السياسية والإعلاميين والأكاديميين حول ظاهرة العنف في الجامعات يتماشى تماما مع سايكولوجيا الإنكار، حيث يصبح من المدهش أن نرى مثقفين وخبراء يحاولون "اللف والدوران" وراء الأسباب الجذرية لسرطان العنف الجامعي بدون أن يجرأوا على ذكر السبب الرئيسي وهو ليس إلا إذكاء التعصب العشائري والإقليمي على حساب الولاء الوطني واحترام الدولة والقانون. أن استخدام المقاربة الأونكولوجية (علم دراسة الأورام) في تحليل مظاهر وأسباب العنف الجامعي تبدو مفيدة جدا في هذا السياق.
العشائرية هي مثل خلايا الجسم السليم وأنسجته التي تجمع أعضاء الجسد الواحد وتنظم العمليات الحيوية وتقيه من الخلل وتساهم في النمو والقوة والتماسك، ولكن أحيانا يحدث أن يبدأ نمو غير طبيعي لبعض هذه الخلايا لتأخذ مكان الخلايا السليمة وتفككها وتنتشر بطريقة عشوائية مهددة أجهزة الجسم السليمة وتغزو كافة الأعضاء المنكوبة بهذه الخلايا الشاذة حتى يصل الجسد إلى حالة تعطيل تام لوظائفه الطبيعية ومن ثم الموت. التعصب العشائري هو مثل خلايا السرطان مقارنة بخلايا الجسد السليم ولا توجد أية مصلحة أو منطق وراء إنكار هذا الواقع.
التشخيص السليم يجب أن يقود إلى العلاج السليم وإلا وضعنا الجسد في مواجهة ترسانة من الأدوية غير المفيدة التي تساهم في زيادة الأعراض وربما ظهور أمراض جديدة. علاج الأورام الخبيثة مؤلم ويستدعي الكثير من المعاناة والصبر وتغييرا مؤقتا في المعالم والوظائف ولكنه ألم مبرر في حال كان العلاج واضحا ومستندا إلى التشخيص السليم وفي الوقت المبكر.
ان قابلية الخلايا السرطانية للعلاج طبيا تعتمد على حجم الجرعات العلاجية وعلى كيفية استخدامها وعلى التزام المريض وإرادته وهو علاج يتكون من مزيج من الادوية التي تهاجم الخلايا السرطانية لإضعاف نموها وأحيانا الجراحة الإستئصالية المؤلمة لإخراج كافة الأورام التي لا تتجاوب مع العلاج.
لدينا في الأردن الكثير من الأبحاث العلمية التي حاولت دراسة ظاهرة العنف الجامعي من وجهة شمولية ومعرفة اسبابها وكيفية التعامل معها وهي موجودة ومتاحة وتحتاج إلى قرارات سريعة لتنفيذ تلك التوصيات وليس الاستمرار في معزوفة الإنكار أو وضع المسؤولية على جهات أخرى مثل التي نسمعها ونتألم لها كل يوم.
لا تستطيع إدارة اية جامعة أن تضع شرطيا لكل طالب أو تتعامل مع كل خلاف بين طالبين بأنه جريمة وشيكة، لأن المشكلة اساسا موجودة قبل الجامعة وهي مشكلة أخلاق وسلوك وقيم وغياب الشعور الوطني مقابل نمو الولاءات الجهوية.
الطالب الجامعي لا يدخل إلى الجامعة كصفحة بيضاء، بل هو نتاج لحوالي 15 سنة من الوعي الاجتماعي والتنشئة الثقافية التي تحدد شخصيته، فإذا كان هذا الطالب قد تعرض أثناء نشأته إلى ضخ متواصل من أفكار التفوق والتعصب العرقي والعشائري والديني والافتخار بقيم التعصب والجماعة الأسرية والاستهتار بقيم القانون والدولة والمجتمع فإنه لن يكون إلا قنبلة زمنية جاهزة للإنفجار مع أي محفز. أن مسببات التعصب العرقي والعشائري مثل الجينات الوراثية لمرض السرطان والتي تبقى كامنة في الجسد إلى أن يظهر عامل ما يحركها ويجعلها تنخر تدميرا في الجسم والخلايا الصحيحة، وفي الواقع فإن إدارات الجامعات تلعب دورا هاما شبيها بدور العامل المحفز لسرطان التعصب.
البذرة الأساسية لأحداث الشغب في الجامعات الأردنية وتجاوز بعض الطلبة للقانون وانتهاكهم لحرمة الجامعة تمت زراعتها في منتصف التسعينات عندما قررت بعض الحكومات مواجهة الانتشار الواسع للتيار الإسلامي في الجامعات الأردنية من خلال تشجيع ودعم نمو تيار مضاد يعتمد على الإقليمية والعنصرية والتوظيف السلبي للقيم العشائرية والولاء للدوائر العائلية والجغرافية الضيقة على أمل أن يساهم هذا التيار في هزيمة التيار الإسلامي.
وبالفعل تمكن هذا التيار ومن خلال الدعم الكبير من إدارات الجامعات وبعض القوى في الحكومات والتيارات الاجتماعية التي قامت بتوليده، وبسبب الخطأ الاستراتيجي الجسيم الذي قام به التيار الإسلامي في عزل نفسه عن التيارات الوطنية والقومية واليسارية بسبب غرور القوة المطلقة والنفوذ، تمكن هذا التيار من إزاحة الإسلاميين عن عرش الانتخابات الجامعية والنمو المتواصل في مناخ وسياق ثقافي واجتماعي ملائم تماما لانتشار التعصب والولاءات الجغرافية.
علينا أن نعود إلى السؤال الأول حول هذا البلد ومستقبله وأن نحلل مليا ما هو الأردن الذي نريد أن نعيش به في السنوات القادمة، ولماذا فشلنا جميعا كحكومات ووسائل إعلام وعائلات ومؤسسات مدنية وقانونا ومجتمع وثقافة في الارتقاء بالأردن إلى دولة حديثة يسود فيها القانون المدني وتذوب فيها الولاءات العائلية والعشائرية في الولاء الوطني الأكبر والانتماء إلى هذا البلد بالمواطنة الأردنية لا بالتعصب العائلي.
إنها أزمة مجتمع جامعي بكل مكوناته من الإدارات إلى الأساتذة المنشغلين في أبحاثهم ومحاضراتهم عن الهم الوطني العام، إلى الطلبة الذين يندمجون في تجمعات عشائرية وطائفية وحزبية ضيقة بدلا من الاستفادة من الفرص التي تتيحها الجامعة في المعرفة وتنمية الشخصية والاتصال الايجابي بمكونات المجتمع الأخرى، ولهذا فإن علاجها لا يكون بمعاقبة الطلبة فقط بل بايجاد حلول جذرية لهذه الأمراض.
أما بالنسبة للقانون العشائري فنحن نعيد احترامنا للأخلاقيات العشائرية النبيلة التي تضمن استدامة التركيبة العائلية في المجتمع الأردني ولكن يجب أن نقول بصراحة أن الوقت قد حان، في القرن الحادي والعشرين للاعتماد على القانون المدني في حل قضايا القتل والجرائم الاجتماعية الأخرى مثل الدهس والضرب لان هذه الجرائم هي في النهاية فردية يرتكبها أشخاص معروفون ولا يمكن أن نستمر في السماح باستباحة الشوارع والمدن والقرى والممتلكات العامة والخاصة وتعريض الأقرباء وعائلاتهم البريئة لكل أنواع الترحيل والضغط والتهديد التي يتعرضون لها ضمن القانون العشائري، ولا بد من بذل جهود مضنية مع القادة المحليين وشيوخ العشائر للوصول إلى وثيقة شرف وطنية تعطي السلطة للقانون المدني والقضاء والأمن العام في حل هذه المشاكل ومعاقبة مرتكبيها وليس إيقاع العقاب الجماعي بالأسر والعائلات والأفراد غير المتورطين في القضية.
في التحليل النهائي نحن نتحدث بكل وضوح وصراحة عن هوية الأردن الحضارية والثقافية، والتي تتطلب منا الكثير من الجهد للارتقاء من الولاءات العائلية والجهوية إلى احترام سيادة القانون، وهذا لن يتم إلا بالتشخيص الدقيق للفشل الذي تم حتى الآن في المواءمة بين التحديث في المظاهر المادية والاستمرار في التفكير المتعصب لدى غالبية الفئات الاجتماعية وحتى المتعلمين منهم.