الزراعة ليست نشاطا اقتصاديا فحسب بل هي قيم وتراث وطريقة حياة وإدامة الصلة بين الانسان والارض، وتدريب دائم على فهم كنه الكون وفلسفة الوجود ومعنى الحياة والرعاية والاهتمام. في المرحلة الزراعية من حياة الانسان تطور العقل واكتسب الانسان عناصر الثقافة والهوية والاستقرار. لذا وفي كل مرة أستمع الى بيانات وتصريحات حول اهمية الزراعة او التوجه نحو الاعتماد على الذات، اجد نفسي متفائلا لحين.
الحديث عن دعم الزراعة عنوان جذاب يحظى بقبول كبير ويعبر عما يتمناه الكثير من المزارعين والمستثمرين والمواطنين على حد سواء. المشكلة ان الدعم الذي يأتي ويلمسه الناس لا ينبع من تصورات شمولية للواقع الزراعي وسرعان ما يصطدم اي اعلان او رغبة عن القيام بذلك مع مصالح التجار والمستوردين والسماسرة فتتلاشى الوعود ويجري اخراجها بصيغ واشكال لا تلبي طموح المزارع ولا تنسجم مع حجم التوقعات التي تتولد لدى المزارع والمواطن.
الفتور الذي نلمسه عند تناول ملف الزراعة يعود الى تداول البعض لفرضية “ان الاردن ليس بلدا زراعيا ومن غير المجدي القيام بأي جهود او استثمارات كبيرة في هذا القطاع”. اصحاب هذه الفرضية يستندون الى معلومة اخرى انتجتها المؤسسات الدولية بأن “الزراعة تحتاج الى مياه والاردن بلد فقير مائيا، وهو احد اكثر بلدان العالم شحا في المصادر المائية، وما لديه منها لا يكفي للحاجات الاساسية”.
هذه المنطلقات كانت الدافع الخفي لتلاشي اهتمام الحكومات بالزراعة والدفع ببيانات مساندة لهذا التوجه تتحدث عن محدودية الاراضي الصالحة للزراعة والانحسار الملحوظ لزراعة القمح والشعير والبقوليات والتبغ والتركيز على بعض الزراعات في منطقة الاغوار التي يجري ريها من قناة الغور الشرقية ومياه بعض السدود والاودية القادمة من الجبال المنحدرة غربا.
انتقال غالبية الأسر الأردنية التي كانت تعمل في الزراعة الى وظائف حكومية وخدمية وتحول اعتماد غالبيتها على الدخول المتأتية من الوظائف والاعمال الحكومية والخدمية ادى الى تراجع كبير في وظائف الزراعة لتصبح استثمارا للبعض يتطلب أيدي عمل رخيصة او ترفا يستدعي القيام به لغايات استكمال صور المنتجعات وبيوت المزارع القائمة على مساحات محدودة لغايات الاستجمام والترفيه.
غياب الدعم والتشجيع الحكومي للزراعة وتلاشي ادوار التعاونيات والجمعيات المتخصصة والمهنية ادى الى توقف الكثير من الأسر والعائلات عن ممارسة النشاط الزراعي وبيع ملكياتها من الاراضي لهواة الزراعة او المتعدين والتجار الذين حولوها لسلع جديدة يقبل عليها كل من يرغب في اشباع شهوة التملك او ممارسة هواياته الزراعية على ايدي عمالة اجنبية يجري استقدامها تحت مسمى المزارعين.
في الأردن اليوم من الصعب ان تجد بين شبابنا من يقوم بعمل زراعي او يعرف بالعمليات الزراعية التي كانت الشغل الشاغل لعدد من الاجيال. في زراعة وقطاف الزيتون والمحاصيل الحقلية يوجد اعتماد كبير على العمالة العربية والآسيوية في الوقت الذي تعاني منه الاسر الاردنية الريفية من الفقر والجوع وضعف الإمكانات.
التصريحات المتتالية عن النية لتحقيق نهوض زراعي شامل يحتاج الى وضع خطة وطنية شاملة تحدد اهدافا ومراحل ووسائل وأطرا زمنية وموازنات. في كل محافظات المملكة ينبغي تحديد مساحات الاراضي القابلة للزراعة ونوعية الزراعات او الاستثمارات الزراعية المناسبة لها.
من المهم التفكير بتوفير مياه من خلال توظيف كافة الوسائل والسبل بما في ذلك الحصاد المائي والحفر والتحلية واساليب الري الانسب.
في العام الماضي هطل على الارض الاردنية ما يزيد على 12 مليار متر مكعب من المياه كان بالإمكان تخزين وحصاد حاجة الاردن منها.
في كثير من الدوائر الزراعية لا يوجد مرشدون زراعيون على دراية بحقول اختصاصهم وتفتقر القرى والأرياف الى اي بيانات او تنظيمات لتصريف فائض المحاصيل او الحصول على الخدمة الحراثة او التسميد والتقليم والبذار وغيرها. الاهتمام بتوفير تراكتورات زراعية ووحدات ارشاد زراعي ميدانية وتطوير اسمدة تناسب انواع التربة ومعدلات الامطار هو ما ينبغي ان تتوجه له وعود الدولة اكثر من خفض ضرائب مدخلات الانتاج والتغليف.
ما الذي يمنع ان توفر الدولة البذار الجيد المحسن للقمح لموسم واحد بأسعار رمزية او إلغاء الجمارك على الآلات الزراعية او تدريب الطلبة في المدارس الريفية على تطعيم الاشجار. الانتاج والتدريب والتسويق وحماية المنتجات الزراعية الاردنية من سطوة السماسرة والتجار عوامل مهمة لتحقيق النهضة واعادة الاعتبار للزراعة.
(الغد)