أضواء على سيرة الشهيد وصفي التل 4
د. فيصل الغويين
14-12-2020 03:10 PM
(1)
بمناسبة مولد الابن الأكبر للملك حسين الأمير عبد الله في 30 كانون الثاني 1962، تقرر إصدار عفو عام عن عدد من المحكومين بقضايا متنوعة. وأعلن رئيس الوزراء أنّ العفو سيشمل المحكومين السياسيين وغير السياسيين، بمن فيهم السياسيون المقيمون خارج الأردن.
وقد صادق مجلس الأمة في أوائل شباط 1962على قانون العفو العام، والذي شمل جميع السياسيين وغير السياسيين المعتقلين والفارين. وبناء على ذلك عاد من سوريا كل من عبد الرحمن فرعون، عضو الحزب الوطني الاشتراكي، وحمدي التاجي الفاروفي عضو حزب البعث، وعلي الحياري رئيس هيئة الأركان، وشفيق ارشيدات أحد مؤسسي الحزب الوطني الاشتراكي، والمهندس نعيم عبد الهادي الذي قضى ربع قرن من عمره لاجئا بين دمشق والقاهرة، وسليمان الحديدي، نقيب المحامين، والأمين العام المساعد لاتحاد المحامين العرب.
حرص التل على متابعة قضايا المحكومين بنفسه، ملتمسا من الملك حسين العفو عن الضباط الذين اعتقلوا على أثر إقالة حكومة سليمان النابلسي 1957، 1958. كما قامت الحكومة بإعادة دمج هؤلاء في المجتمع ومؤسسات الدولة، وقد تولى معظمهم مواقع وظيفية مختلفة، كسلطة المصادر الطبيعية وسلطة وادي الأردن. منجزا بذلك مصالحة وطنية هامة بين المعارضة والحكم.
(2)
وفي كانون الأول 1963 بادر بطرح موضوع إعادة تنظيم الأحزاب السياسية في الأردن. وأعلن أنّ حكومته سوف تعيد النظر في التشريع الذي ينظم تشكيل الأحزاب، وأنّها ستتقدم بمشروع يؤمن تأسيس الأحزاب على أسس سليمة مبرأة من “الهدف الأناني والعبث الخارجي”.
ويضيف:” وبذلك تقوم في بلدنا مؤسسات ديمقراطية موضوعية التفكير، تتخذ من العمل مقياسا للحكم على الاشخاص. ولأنّ الحكومة لم تدم طويلا، لم يفعل مشروع قانون الأحزاب، وبقيت الممارسة الحزبية ممنوعة.
بعد عودته لتولي مسؤولية رئاسة الحكومة أعاد إحياء فكرة تأسيس ميثاق لتنظيم العمل الحزبي في الأردن. وتشكلت لجنة مصغرة لصياغة مسودة المشروع، ضمت الشريف عبد الحميد شرف، وعبد الله غوشه، وذوقان الهنداوي، وسعيد التل. وبإشراف من المؤرخ والمفكر قسطنطين زريق.
وخلال اجتماع اللجنة الأول بين التل أنّ النية تتجه وبتوجيه من الملك حسين لوضع ميثاق للعمل السياسي العام، ليكون بمثابة الإطار الفكري والسياسي الذي يوجه سياسة الدولة في جميع المجالات، وأوضح أنّ وظيفة هذه اللجنة وضع مسودة مشروع الميثاق، الذي سيطرح للمناقشة العامة في وسائل الإعلام من أجل إغنائه، وبعد ذلك يناقش في مجلس الأمة، وبعد أن يأخذ المشروع الصفة الشرعية سيتم وضع قانون أحزاب يسمح بتطوير حزبين أو ثلاثة أحزاب على الأكثر.
وعندما اكتمل العمل علق المؤرخ والمفكر الدكتور قسطنطين زريق قائلا:” إنّ هذا الميثاق عندما يقر سيكون أول تحرك عربي جدي متوازن لوضع إطار للعمل السياسي العام”. لكن حرب 1967 وما رافقها من أحداث لم تسمح بالتفكير بالعمل السياسي العام، ولا بالميثاق الذي من المفترض أن يقوم عليه هذا العمل، فجمد المشروع.
(3)
في مجال إصلاح الجهاز الإداري، وتنظيم أجهزة الدولة وتجديدها، أولى التل محاربة الرشوة والمحسوبية وتطهير أجهزة الحكومة من العناصر الفاسدة أهمية كبيرة. وللتخلص من الرشوة قرر زيادة رواتب الموظفين، وإعادة علاوات غلاء المعيشة للموظفين والعسكريين، مع زيادة ساعات العمل، بحيث أصبح دوام الموظفين على فترتين مسائية وصباحية، على أن تكون ساعات العمل المسائية لإنجاز المعاملات فقط وليس لمراجعات المواطنين.
وابتدأ خطواته الاصلاحية بحل مجلس أمانة العاصمة، كجزء من عمله في محاربة الفساد، وقرر تعيين أحد قضاة محكمة التمييز أميناً للعاصمة، مع سبعة أعضاء من الشخصيات المعروفة كان من بينهم منيف الرزاز الشخصية المحورية في حزب البعث.
(4)
كان إخراج فكرة معسكرات الحسين للعمل والبناء خير ترجمة على استثمار الطاقة الشبابية لبناء الوطن، والاستفادة من جهود الطلاب خلال العطلة الصيفية؛ من خلال برنامج عسكري وثقافي تضمن إلقاء المحاضرات التي تحث على قدسية التمسك بالأرض وقيم الإنتاج، والقيام بأعمال التحريج وفتح الطرقات وتنظيف البرك وغيرها.
وحدد وصفي أبرز مهام المعسكرات بقوله :” إنّ المهمة الرئيسية لهذه المعسكرات هي تنشئة جيل جديد يؤمن بالتجربة والعمل، وهي الوسيلة الفعلية للوصول إلى الأهداف سواء في السلم أو في الحرب، وما كان ضياع فلسطين إلا لنقص هذه التجربة وعدم وجود العمل الجدي المنظم، ولذلك نحن نعدكم في هذه المعسكرات للمستقبل بسلمه وحربه، وأنتم أيها الشباب رأس مال هذه الأمة التي ستستعيد به حقوقها المسلوبة”.
حرص التل على متابعة عمل هذه المعسكرات، وأن يكون موجودا بين الشباب، فبدأ بزيارة معسكرات الضفة الغربية من المملكة قبل الشرقية، وأجرى حوارات تتمحور حول فلسطين والسلاح.
وفي التاسع من آب 1962 استعرض الملك الحسين طلاب المعسكرات في القدس إيذانا باختتامها، مخاطبا إياهم بالقول :”إنّي لأحس بأنّ جهودكم تحملنا إلى ما وراء الحدود، لتعود لنا على أيديكم جنتنا المفقودة”.
ربط وصفي بين تجربة إقامة المعسكرات وضياع فلسطين، معتبراً أنّ نقص هذه التجربة كان سبباً في ضياع الأرض. وأكد على ضرورة إقامة هذه المعسكرات سنويا. وبعد اغتياله رغب المغفور له الملك حسين وكنوع من التكريم، إعادة إحياء الفكرة تحت اسم "معسكرات الشهيد وصفي التل للعمل والبناء".
(5)
كان وصفي أول رئيس وزراء اختط زيارة المحافظات للاجتماع بالناس والاستماع إلى ما يريدون، وعقد أكثر من جلسة لمجلس الوزراء في
القدس، وأعلن أنّها العاصمة الثانية للمملكة. وكان أول من أقر أن يكون عيد العمال عطلة رسمية.
في عقد الستينات تمّ إنجاز محاور أساسية في البنية التحتية للدولة؛ ففي سنة 1962 تأسست الجامعة الأردنية، في موقع مستنبت وزارة الزراعة في الجبيهة. وكانت رؤيته أنّ الجامعة إضافة لكونها مهمة لإعداد المعلمين والأطباء والمهندسين وغيرهم من الجامعيين، يجب أن تصبح مركز إشعاع فكري وسياسي وثقافي، وأن تلعب في عمان الدور الذي لعبته وتلعبه الجامعة الأمريكية في بيروت.
كما تمّ تأسيس البنك المركزي، والبدء بإنشاء ميناء العقبة، وإقرار برنامج السنوات السبع للتنمية الاقتصادية (1964 – 1970)، حيث وصلت نسبة النمو الاقتصادي 11% سنة 1966، وارتفع احتياطي المملكة من الذهب والعملات الاجنبية. وتم إنجاز مشروع قناة الغور الشرقية، وإنشاء بنك الانماء الصناعي، ودائرة للثقافة والفنون، إضافة إلى المباشرة بمشروع التلفزيون.
وفي 26 تشرين الثاني 1966 سنًت حكومة وصفي الرابعة قانوناً للتجنيد الاجباري، جعل مدة الخدمة العسكرية ثلاثة أشهر ينقل المجندون بعدها إلى قوات الاحتياط. وفي عهد حكومته الخامسة والأخيرة 1970 - 1971، أحيل عطاء تنفيذ سد الملك طلال، وأنشئت المزيد من المدارس والمراكز الطبية والطرق، ومشاريع المياه، وأقيمت العديد من المجالس القروية والبلدية، وبدأ بتنفيذ طريق عمان – الزرقاء....
يتبع