لست سلفيا فيما يتعلق بضوابط وقواعد اللغة العربية وصرامة النحو، وأنا أميل الى تسهيل وتيسير هذه القواعد للطلبة وإعادتها الى نقاوتها الأولى. إنني مع اللغة البسيطة البيضاء كما يقولون، حين يتعلّق الأمر بالتعبير في حياتنا اليومية. لغة لا هي بالمقعرة الغريبة على سائر الناس، ولا هي بالمائعة المكسّرة التي تستهين بالقول والكلام والفكر وتترك الأمر على عواهنه. ولماذا لا يكون لنا لغة طازجة تبتعد عن القوالب الجاهزة يستطيع الكاتب أو الإعلامي أن يضع فيها أفكاره الواضحة دون محاولة الإستعراض والتنقيب عن الكلمات في القاموس أو في الكتب العتيقة !!
أقول هذا وقد خضت حوارا هو ما بين الأكاديمي والصحفي تحدثت فيه عن راهن اللغة العربية ودور الإعلام في بلورتها وتحبيب الناس فيها واستخدامها استخداما عمليا وعلميا. وبدأنا بالسؤال:
كيف يشكل الإعلام اداة لتطوير لغة الأطفال؟ وهو سؤال يقترب من التعلم الأول الصادق النقي للإنسان وهو يحاول جاهدا أن يفهم محيطه الذي حوله ويتعرف اليه.
وأنا أعتقد أنه باستطاعة أدوات الإعلام وبالأخص التلفزيون أن تقوم بدور كبير في تعليم الأطفال اللغة وزيادة مخزونهم من الألفاظ ومعرفة معانيها بدقة والفرق بينها وبين المترادفات، إضافة الى صياغة الجمل وبناء الموضوع وذلك عن طريق برامج يضعها مختصون في سيكولوجية الأطفال وميولهم. إن الصورة المتحركة أمام أعين الأطفال تجعل من وصول معاني الكلمات واستخدامات الجمل الى الطفل وصولا سهلا ميسّرا خصوصا عن طريق افلام الصور المتحركة.
ونحن عندما نقول الأطفال فإن هذه الشريحة واسعة ولا بد من تقسيمها الى شرائح عمرية، فشريحة الأطفال في السنتين أو الأربع سنوات الأولى يتفتح وعيها على اللون والحركة والصوت، أما الشريحة الأكبر سنا ولنقل في المراحل الابتدائية الأولى فإنه يحكمها منهج اخر حيث يبدأ الأطفال في هذه المرحلة في التعرف على المعاني والجمل ومقاصدها الى أن نصل الى المرحلة الإعدادية والثانوية فيتغيّر هنا المنهج والطريقة.
لقد بدأت الحديث بالإعلام المرئي وتأثيره لإن الصورة البصرية هي الطاغية الان في عصر تكنولوجيا الإعلام، لكن وسائل الإعلام الأخرى لها تأثير كبير أيضا. ففي مراحل أكثر نضجا من المراحل الأولى يؤثر ما يقرأه الطفل ويسمعه ويشاهده على وسائل التواصل الإجتماعي ليس في ذائقته فقط وإنما في حصيلته المعرفية ووعيه. فلذلك إذا تعرض الطفل الى إعلام ليس له مصداقية أو ليس موضوعيا، فإن تكوين الوعي هذا لدى الطفل يصبح مشوها أو ناقصا، وهنا تكمن أهمية أن يساهم الإعلام إضافة الى المدرسة والخطاب العام للدولة في تأسيس عقل نقدي للطفل، عقل يقارن ويناقش ثم يتبنى الفكرة ويدافع عنها بعد أن يعتقدها ويتبناها. وبذلك يؤسس منظومة أخلاقية وتتبلّور هويته الثقافية.
إذن كيف تلعب اللغة العربية دورا في تعزيز الهوية؟
إن اللغة أداة للتفكير وواسطة لنقل العلوم والمعارف والأحاسيس والمشاعر. وهي هنا وعاء تحمل كل العناصر المشتركة لمجموعة من الناس يعيشون على رقعة جغرافية واحدة ولهم تاريخ واحد ولهم ميراث معرفي متشابه. ومع نشوء الفرد وتعلّمه اساليب اللغة وتعابيرها سواء المباشرة أو الرمزية من أمثال وشعر ومجاز، يصبح هذا الفرد متحدا في الوعي المعرفي مع أفراد أخرين، بل مجموعة من الناس لها نفس المرجعيات الثقافية واللغوية وبالتالي نفس الوعي الجمعي. هنا تصبح اللغة حاملة ومبلّورة للهوية الوطنية.
إن ما يحدث الان في بعض قطاعات التعليم الخاص من التركيز على اللغة الإنجليزية وأهمال العربية وبالتالي إنتاج جيل لا يتقن لغته الأم يؤدي الى تشويه الوعي الجمعي بل الى انقسام المجتمع حول هويته الوطنية ويصل بالنشء الى حالة أشبه بالغربة الثقافية والمعرفية.
وللغة دور في تعزيز الهوية له شكل سياسي، وقد يكون هذا البعد سلبيا احيانا وقد يكون إيجابيا. سلبي بمعنى تصاعد الحس القومي الشوفيني المعادي للمكونات الأخرى أو إيجابي بمعنى إعتبار الأمة تحتوي مكونات مختلفة لكنها متحدة في هواجس وقضايا وطنية ومتحلقة حول دستور الدولة وقوانينها وأنظمتها وانتمائها. أي أن الإختلاف هنا هو في إطار الوحدة ونزاح من حيّز الاختلاف الى التنوّع.
إن المكوّنات العربي السني والشيعي والمسيحي والصابئي المندائي والبهائي والكردي والأمازيغي والشركسي والشيشاني والأرمني التي تعيش معا في الوطن العربي او في دولة عربية معينة، إنما تتحد في أن اللغة العربية توحدهم وتؤطر وعيهم الجمعي وسلوكهم الحياتي والثقافي ومصالحهم المشتركة. وبذلك تصبح اللغة جزءا من الكبرياء الوطنية.
ولماذا علينا أن نهتم بتنشئة اطفال فخورين بلغتهم؟
ليس من باب التعصب القومي أو من باب المباهاة أن ندعو الى إنشاء جيل فخور بلغته القومية. وهذه الدعوة لا تتعارض مع تعلم وإتقان اللغات الأخرى، لكن ليس قبل إتقان اللغة القومية. إن وجودنا الإنساني والحضاري مرهون بمعرفة الذات سواء على المستوى الفردي أو على المستوى الجماعي. علينا أن نسأل من نحن وعلينا أن نجيب على هذا السؤال، كل مكوّن من مكوّنات المجتمع على حدة. لكن الإجابات في النهاية لا بد أن تتوحد وأن تتحلق حول مبدأ رئيس وإجابة رئيسة مع الاعتراف بالإجابات والتعريفات الفرعية. إن الشاب أو الشابة العارف بحضارته وتاريخه ولغته إضافة الى معرفته وإلمامه بلغة أو لغات أخرى، يستطيع أن يمهر اسمه في قائمة الناجحين مهنيا واجتماعيا في الحياة العملية وبالتالي يصبح متصالحا مع محيطه فاعلا ومؤثرا فيه وناجحا في مهنته معبرا عن ذاته من خلال المصالحة مع محيطه والتفاعل معه، وهنا ينبني في داخل ذاته الشعور بالكبرياء والثقة بالذات والثقة بمجتمعه ووطنه وتاريخ هذا الوطن.
هل يقوم الإعلام بدور في خدمة اللغة العربية؟
لا أظن أن الإعلام يقوم بالدور المطلوب في خدمة اللغة العربية في الوقت الراهن. لقد تراجع دور الإعلام عموما في نقل المعرفة الإنسانية ليصبح إعلام ترفيه ومنوّعات. فقد كان الإعلام في السابق، أداة تثقيفية بل وتثويرية. صحيح أنه سقط فيما مضى في (البروبغاندا) أو الدعاية السياسية والترويج، وهذا أصاب الإعلام في مقتل إذ أبعده عن الموضوعية والحيادية، لكن إذا نظرنا الى الإعلام الاجتماعي والثقافي بعيدا عن السياسة فقد أدى هذا الإعلام دورا كبيرا ورائدا في السابق. تطوّر الإعلام اليوم تقنيا وزادت مساحة الجمهور المتابع لأي وسيلة إعلامية لكنه تراجع عن دوره كإعلام تثقيفي ومعرفي. ليس هذا فحسب بل تخلت وسائل الإعلام وكثير من الإعلاميين عن الرصانة السابقة والجدية والاهتمام باللغة كدليل على قدرة الإعلامي وتمكنه. وسادت الأساليب الإعلامية التي تستسهل الحديث والثرثرة والمعلومة غير الموثوقة إضافة الى ميوعة اللغة وكثرة الأخطاء اللغوية والنحوية وتكسير اللغة واللاجدوى من الكلام بل في الأغلب الكلام دون محتوى. وكل ذلك أدى الى ضبابية في الهوية الوطنية وفي جعل اللغة كائنا أعرج لا يصل بنا الى المقاصد والغايات والنهايات التي نطمح اليها كمجتمع.
ماذا عن تأثير الإعلام الحديث ووسائل التواصل الاجتماعي على اللغة العربية وتقبل الأطفال لها؟
في حين أن وسائل التواصل الاجتماعي الإعلام الحديث قد صنعت ثورة معرفية من حيث التواصل والوصول والتعبير، فإنها في الوقت ذاته لم تساهم في بلورة لغة حديثة أو الوصول الى لغة عربية راقية تخرج من جلباب التقليد القديم والكلشيهات الجاهزة والألفاظ القاموسية. هي لم تفعل ذلك فتخلص اللغة من قتامتها وبلادتها، ولم تضع لغة حديثة خاصة بها. أقول هذا على الرغم من أهمية هذه الثورة الإعلامية المعرفية في الشكل، إلا أنها لم تؤسس لغة جديدة تقوم على السهولة واليسر وفي الوقت ذاته على العمق والصدق في التعبير. أو ربما لم يحن الوقت للحكم على ذلك.
ماذا نقول لأطفالنا بماذا ننصحهم لتطوير لغتهم؟
لنعترف أولا أن طرائق تعليم اللغة العربية التقليدية هي طرائق لم يتم تحديثها ولا تبسيطها. ونحن نعلم أن النحو العربي كان قد وضع أصلا باستخدام علم المنطق الذي يقوم على الرياضيات والحساب، فهو إذن علم ينطبق عليه تعريف العلم الذي يمكن تعلّمه وهو بذلك بعيد عن الرأي أوالاعتقاد أو الفكرة العامة بل إن الفعل والفاعل والمفعول به وكافة أبواب النحو إنما تعبّر عن الحدث الحركي والفيزيائي الذي يحدث في الحياة بحسب قوانين الفيزياء والحركة. لكن الأساليب التي يتم عرض هذا النحو من خلالها هي أساليب صنميّة ولا تراعي العصرنة والمتغيرات الحياتية والعملية والعلمية. وهذا في الواقع هو جوهر وسبب العزوف عن تعلم العربية واكتشاف ألقها كلغة عالمية عظيمة حملت عبر التاريخ مفاهيم العلوم والآداب والتاريخ والرياضيات والفلسفة وتعلمت منها مختلف الأمم.
وإذا كان هناك من نصيحة للأطفال فهي توجّه للآباء والأمهات أولا، وهي نفس النصيحة للأطفال، الا وهي أنه علينا أن نفهم اللغة العربية في إطار تنويري علمي وليس في إطار سلفي يعتمد على اللفظ الجاهز والجمل الممجوجة التي أصبحت فارغة من المعنى والكلاشيهات المكررة. على كل فرد اكتشاف لغته وأسلوبه الخاصين به. عليه أن يكوّن ويؤسس جملته الخاصة به في خطابه للآخر وفي كتابته ونطقه وفي تعبيره عن نفسه. وهذا يتأتى من خلال كثرة القراءة ونوعية هذه القراءة وهنا لا بد من توجيه الأطفال باتجاه القراءة الجادة الممتعة التي تشذّب النفس وترتقي بالحواس والوعي. فاعتماد المراجع التقليدية التي تعتمد عليها مناهج التعليم لا تؤدي الا الى مزيد من التقليدية والبلادة. علينا أن نعلّم الطفل كيف يفجّر اللغة من الداخل ويكتشف مفرداته التي يستخدمها لتؤدي المعنى الذي يقصده مباشرة دون التفاف، وأن لا يظلّ أسير المعاني والتعابير التي قالها اخرون. ولا بدّ في معرض ذلك أن يتم الفصل بين اسلوبين في التعبير والكتابة ألا وهما: الأسلوب الشاعري المجازي الذي يمثله الإنشاء العربي الغارق في الصور والتعابير المجازية، والأسلوب العلمي الدقيق العملي الذي يقول الفكرة بأقل العبارات. ففي الغالب الأعم يتعلم الطفل خلط الأسلوبين ويتدرب وبتشجيع من الكبار على استعراض مهاراته في الإنشاء كلعب في الكلمات واللغة وليس كتعبير حقيقي عن المشاعر التي في داخله. إن الفصل بين الأسلوبين هو في الواقع تعبير عن بنية تشريحية في الدماغ البشري الذي يقول العلم أنه، أي الدماغ، يتكوّن من جانبين هما الأيمن والأيسر. الأول وهو الأيمن يختص بالتفكير الخلّاق والميل الى الفنون والأدب والموسيقا، والآخر وهو الأيسر يميل إلى التحليل المنطقي العلمي والرياضي. وأنت حين تكتب أو تعبّر عن فكرة علمية كأن تكتب طلبا للعمل أو ما شابه فإنك تنحو منحى العلم وتقديم الحجة وتحاول أن تصل الى الفكرة بأقصر الجمل. أما إذا كنت تكتب لتعبّر عما في داخلك من أحاسيس وعواطف، فإنك تكتب بطريقة الخلق الفني والمجاز الجمالي وكلا الأسلوبين يختلف تماما ولا يجوز الخلط بينهما.
إن الوصول الى حالة التنوير والعبور الى مدينة المعرفة إنما يتأتى عن طريق القراءة والتعلم والإلمام باللغة ومعرفة مساحاتها وإمكانياته. ومدينة المعرفة لها أبواب كثيرة. وهي قد تفتح أحد أبوابها لك أو ربما أكثر لتدخل الى عالمها الساحر لكن ذلك لا يتم إلا عن الطريق اللغة. فاكتشاف اللغة من جديد ومعرفة طاقاتها وركوب بحرها وتعلمها كتجربة استبطانية صوفية وكرحلة الى الذات بإيقاظ الإحساس الداخلي لدينا وبالمنطق الذي تسير به هذه اللغة كل هذا يجعلها تسلس قيادها لعشاقها وللمغامرين الذين يتوقون الى السفر على أجنحتها.