كزهر اللوز شفيفًا .. رحل نبيل الغزاوي
رشاد ابو داود
08-12-2020 12:11 AM
يرحلون فجأة. يصدمك غيايهم وأي غياب؟! غياب أبدي لا رجعة منه. تشعر كما لو أنك أرض اجتثت منه شجرة. كل الشجر جميل لكن ثمة فرق في الطعم واللون والرائحة و.. في العمر.
الخضار تطعمك لكن لموسم واحد فقط. ومنها من يثمر بمواقيت ثم يبيت حتى الموسم القادم. اللوزيات، المشمش والخوخ والدراق واللوز تعيش أطول أطول لكن ثمة ما هو أطول عمراً منها. ولا أعلم لماذا نسبوها الى اللوز. ربما لأن زهره الأجمل، شفيف خفيف، وهو ما أغرى محمود درويش ليكتب عنه:
لوصفِ زهرِ اللوز، لا موسوعةُ الأزهارِ
تسعفني، ولا القاموسُ يسعفني..
سيخطفني الكلامُ إلى أحابيلِ البلاغةِ
والبلاغةُ تجرحُ المعنى وتمدحُ جرحه،
كمذكَّرٍ يملي على الأنثى مشاعرها
فكيفَ يشعُّ زهرُ اللوز في لغتي أنا
وأنا الصدى؟
وهو الشفيفُ كضحكةٍ مائيةٍ نبتتْ
على الأغصانِ من خفرِ النَّدى..
وهو الخفيفُ كجملةٍ بيضاءَ موسيقيةٍ..
وهو الضعيفُ كلمحِ خاطرةٍ
تطلُّ على أصابِعنا
ونكتبُها سُدى
فكيف اذا كان من رحل يجمع بين طول اخضرار الزيتونة وكثافة عطائها وبين بياض اللوز وبهائه؟ أعني نبيل الغزاوي. هذا القلب الأبيض الذي يحمل جسداً بأذرع ما قصرت يوماً بل ظلت ممدودة لكل صديق وقريب، الشجرة التي كلما سقطت ضحكة أثمرت على الفور أخرى.
عرفته في الكويت، كان في جريدة «السياسة»، صحافياً بارزاً، مهنياً شجاعاً ومحباً لأبناء بلده الأردن. وكنت أنا في «الأنباء». لم نكن نلتقي وجهاً لوجه كثيراً لكن كنا نلتقي على صفحات الصحف وفي المناسبات. هكذا هم الصحفيون يعرفون بعضهم من أخبارهم ومقالاتهم حتى لو لم يلتقوا.
عندما عدت الى عمان من الكويت العام 1990 رحت أبحث عن زملائنا الصحفيين. عندما دخلت «الدستور» أول مرة كزائر كان أول من رأيت نبيل الغزاوي، بقامته الشاهقة وضحكته المقهقهة فاجأني «رشاد» وعانقني بحميمية لا أنساها. أخذني الى مكتبه ممسكاً بيدي وتلك كانت عادته، تحدثنا طويلاً طويلاً. كانت ضحكته كفاصلة بين جملة وجملة، تبدد بعض الحزن وتسند السطر الى مبتغاه. عرفني بالزملاء الذين لم أكن أعرفهم في «الدستور» وسعدت بهم. أصر نبيل بكرم أبناء البلد، أن يدعوني للغداء لكن الوقت لم يكن يتسع. تبادلنا أرقام الهواتف والقبلات عند الوداع وخرجت.
لكن يشاء القدر أن أعود لـ«الدستور» العام 1998 لكن ليس كزائر بل كمدير عام للتحرير. فرح نبيل لرؤيتي وموقعي. وشعرت أنا بدفء حميم منه ومن الزملاء ولن أذكر أسماء حتى لا أنسى أحداً.
لم يحل موقعي الوظيفي بيني وبينه. كان يفتح باب مكتبي بقوة، يحلس على طاولة الاجتماعات ويقول «هات ورقة ورقتين لدي خبر مهم أريد أن أكتبه». أضحك من قلبي واقول له «حاضر..تقضل استاذ». ثم يصرخ «ويييين القهوة؟». ايضاً أضحك وأطلب له قهوة.
مات نبيل. يا الله ما أصعب الخبر. موجع حد البكاء، خاصة عندما يكون الميت صديقاً وزميلاً أبيض القلب، رقيقاً كزهر اللوز، معطاءً كزيتونة.
يرحمك الله يا نبيل، أنتم السابقون ونحن اللاحقون.
(الدستور)