"ما بين الحب والوجع للروائي مراد سارة"
إخلاص فرنسيس
06-12-2020 06:59 PM
لم أجد عنواناً آخر يعبر عن قراءتي ما بين قطة فوق صفيح ساخن ورسائل تهدى بالبريد، أردت الخروج من هذا الوجع والموت ولاسيما نحن الآن نتخبّط تحت وطأة أخبار كورونا الذي يحصد النفوس يمينًا وشمالًا.
أردت أن أذهب إلى غادة أخرى غير المقابر وحفر القبور، إلى جادة الحياة، لكن لم أرد أن أبتعد كثيراً عن الكاتب مراد سارة، بل كان فضولي أكبر إذ أردت أن أعرف هل يستطيع كاتب هذا الكم الهائل من الألم المعيش نقله من واقع المخيم وهو ابن المخيم حيث اتّخذ من القطة محاوراً له وبطلاً رئيسياً وشريكاً في البطولة.
التهجير والوجع حتى في الكتابة والقفز معًا من وراء باب مخلع إلى باب الجار القريب والبعيد، إلى مركز توزيع الطحين ومكتب الإغاثة ثمّ العودة تحت الصقيع الذي تجمّدت معه الدمعة، إلى الكرتونة الباردة وبابور الكاز، ليناما معاً على عزفه الشجيّ طفلين متروكين بين أخوة كثيرين.
أردت أن أهرب من الصفيح الساخن الذي لدغني مثل أفعى سامة، واحترقت معه دمعتي وأصابعي، وأنا أسير بين الكلمات والسطور، أردت أن أُهدي نفسي رسالة حبّ وأمل، من تلك الرسائل لخمس دقائق أبتعد فيها عن الموت المشحون، فوجدتني أقرأ كلّ المجموعة، وأعيش حالة الحبّ والشوق والهيام، إضافة إلى الألم والأمل ومشاعر الخيبة التي تضمنتها تلك الرسائل.
لقد ردّني الكاتب إلى زمن ساعي البريد والشوق والانتظار، إلى الطريقة التقليدية القديمة في الرسائل.
لم تكن الحبيبة هي الشاغل الوحيد للكاتب بل في كلّ رسالة هناك من يجد ابناً وأخاً، أختاً وأباً يتبادلون الرسائل في زمن استفحل فيه التهجير الذي ما زال حتى الآن يشرذم البيت الواحد إلى جهات الأرض الأربع.
ينقلنا الكاتب من غبطة إلى أخرى، نتنسم بين السطور روح جبران وسلمى كرامة ووردة الهاني، إضافة إلى روح درويش، وكأنّ الكاتب مسكون بهم، فسكنوا حروفه وكلماته. وأنين روحه امتزج مع أنين أرواحهم وأمنياتهم واتّحدت.
هنا يبرز جلياً تأثر الكاتب بكتابات جبران ودرويش، ونامت في اللاوعي واللاشعور حتى أتت هذه المحبوبة، وأيقظتها من كبوتها، وغيرت مسار القلم، وكانت الحبّ المتبادل من حبر القلوب.
إنّها رسائل تهدى بالبريد أشبه بمناجاة بين الكاتب وكلّ من أحبّهم وعرفهم ومروا في حياته، ومع من لم يعرفهم أيضاّ بل سمع عنهم من خلال الآخرين.
إنّها رسائل مفعمة بالحبّ الروحانيّ الصافي الذي نفتقده في زمننا هذا، وإن أطال الكاتب، وكتب العديد منها حيث وقع في حفرة التكرار. كان ممكناً أن تختصر ربما في ثلاث رسائل، ربما كان هناك غاية ما في نفسه مثل رسالة ضمنية أراد أن يوصلها لنا مشدّداً علينا بالتكرار كي نعرف، ونستوعب ما يريد لنا أن نعلمه.
إنه الكاتب الذي لدغه صفيح الخيانة الساخن، وأبعده عن وطنه الأمّ، فوجد نفسه في بؤرة من المرارة وانتهاك حرية الإنسان. طفل لا ذنب له إلا أنه فتح عينيه، ليجد نفسه مطروداً من جنة أرضه التي تفيض لبناً وعسلا، ومن بيت الإسمنت إلى صفيح يشويه صيفاً، ويجمده شتاء.
اتّخذ له من الكلمة والكتابة ملجأ ممنطقا حقويه بالعاطفة الجياشة، وترك العنان لمشاعره تنساب عبر قلمه في كتابة رسائل من قلبه وإليه، هارباً إلى دفء الحرف وحضن الحبيبة، يناجيها ويبثّها ما يختلج في صدره من وجع وعشق قد تكون هي طوق النجاة الذي رماه له القدر، لينقذه ويدخله عرين الحياة.
من منا لم يمسّه الحبّ بناره المقدّسة، ليوقظنا من سبات الموت إلى الحياة؟
هناك غاية في نفس الكاتب "المحبّة التي تولد من رحم اللانهاية، ولا تقنع بغير الأبدية، ولا تستكفي إلا بالخلود"
من الرسالة الخامسة عشرة.
هذه المحبّة التي عبّر عنها جبران خليل جبران قائلاً:
ما أجهل الناس الذين يتوهّمون أنّ المحبّة تتولد"" بالمعاشرة الطويلة والمرافقة المستمرّة. إنّ المحبّة الحقيقيّة هي ابنة التفاهم وإن لم يتمّ هذا التفاهم الروحيّ بلحظة واحدة لا يتمّ بعام ولا بجيل كامل.
الحياة والوجود، الحبّ والوطن، الحبيبة والأرض، البلد ومحاكاة الفصول، ارتباط هجرة الطيور بهجرة الوطن وحبّ الأرض، إنسانية مقهورة، والحبيبة هي ذلك الوطن المقهور، وذلك الوطن الذي يحنّ إليه الكاتب في كلّ رسالة، رسائل عشق موسومة بالفراق المستمرّ، ذلك الوطن الذي وجد نفسه خارجه قبل أن يولد، يسافر إليه عبر تلك الرسائل التي تعبق برائحة المطر والشجر والزهر، أشبعها من روحه وآماله، فأتت عبارة عن قطار يقف في محطّات حياة كلّ واحد منا، يصعد راكب، وينزل آخر، ويستمرّ القطار في سيره حتى نهاية الخطّ.