الأرواحُ الطَّيبة -ذكَّرتنا بها (Social Media) أمْ غضَّت الطَّرف عنها- فإنّها حاضرةٌ لا تغيب، لا تُنسى! كانَ ذلك قُبيل ثلاثِ سنوات، على عتباتِ اختبارات نهاية الفصل الجامعيّ الأوّل، في جامعة طَيبة بالمدينة المنوَّرة.
هو الموتُ لا يَتخلَّف عن ميعادِه، ولا يَملكُ الإنسانُ تُجاهه خيارًا؛ فيئدُ له كلَّ بارقة، فلا تَجود بمائها، ويَقتلُ كلَّ سانحةٍ من سوانحِ الرّجاءِ فينقطعُ الأمل، ثمَّ يَخْلدُ راغمًا في رحلة طويلةٍ، يَنْقطع فيها المرءُ إلّا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علمٍ يُنْتفع به، أو وَلَدٍ صالحٍ يَدْعو له.
ولو أنَّ حمدًا يُخْلدُ الناسَ أَخْلدوا/
ولكنَّ حَمْدَ النَّاسِ ليس بِمُخْـلـدِ
هي سنَّةُ الحياة لا تَطيشُ سهامُها، ولكنَّ النّاسَ فيها بين إنسانٍ يُقبل إلى الآخرة برضًى وطمأنينة، وآخرَ يُساقُ إليها سَوقًا لا يَلْوي على شيء.
مات ابنُ الكنانة إبراهيم قنديل، ذو الثّامنة والسّتين، أمسِ (5 ديسمبر 2017م) هنا في المدينة المنوَّرة، المدينةِ التي ترنو إليها النّفوس، وتحنُّ القلوب، وتشرئبّ الأعناق، وتُشدّ الرّحال، عاش فيها عَقْدًا في جوارِ الحبيب، كانت لحظاتٍ تَتجلّى فيها النّفسُ في ملكوتِ الحبِّ الجميل، الحبِّ السَّرمديّ الذي لا يُطاوله حُبٌّ، إنَّه حُبُّ الحبيبِ مُحمّد، وكأنّي به –رحمه الله- إذْ كانتْ تُجدّدُ له جامعةُ طيبة العملَ كلَّ عامٍ بعد السّتين، كأنّي به يَتوقُ إلى هذه اللحظةِ النُّورانيّة؛ أنَّه كُتبَ له أنْ يَقضي في المدينة، يَحظى فيها بشفاعةِ الحبيبِ صلَّى الله عليه وسلّم، وذلك فضلُ اللهِ يُؤتيه مَن يشاءُ مِن عباده.
بَلوتُ إبراهيم، وخَبرتُه من قُرب، ودنوتُ منه في سَبْعِ سنينَ مُعْصرات، فوجدتُ فيه –رحمه الله- إنسانًا أيَّ إنسان! لم يكن فظًّا، ولا غليظَ قلبٍ، ولا ضيّق عَطَن، بل يَفيضُ رحمةً وشوقًا، حنانًا وتحنانًا، تعالى عن الصُّغْريات وبُنيّات الطّريق، وتَسامى في رحابِ الأخلاقِ والنّبلِ والطُّهر والقيم، لم تُفارقه ابتسامةٌ، ولا ارتسمتْ على مُحيَّاه كآبة، فإذا لقيتَه حيّاك وبيّاك، فلا تَملكُ إلّا أنْ تحبَّه، يُؤنسُك فتأنس به، ولا تَملّ حديثه، فإذا أحبَّك قَرَّبك منزلًا، وحَنا عليك حُنُوَّ المُرْضعات على الفطيم، فكنتَ زائره الذي لا يُمَلّ، وغائبه الذي يُنْتظر.
لا أبالغ إذا قلتُ بلغة المُحدِّثين: إنَّ الأديبَ النَّاقد الدُّكتور إبراهيم قنديل -أستاذَ الأدبِ والنَّقد في جامعتَيْ طيبةَ والمنصورة- كان حافظًا؛ ذلك أنَّه وهبه الله قلبًا حافظًا ولسانًا لافظًا، فكانَ -رحمه الله- يَحفظ الشّعر العربيّ، أو يَكاد يحفظُه كلَّه، فإنه تَمتَّعَ بحافظةٍ من حديدٍ لا تُخطئه، فإذا ما دارَ بينك وبينه حديث، أدهشَك بسعةِ مَحفوظِه، وخَلَبَ لبَّك بمتونِه وفُنونه.
كان خطيبًا يحسنُ فنّ القول، وشاعرًا تَرقُّ له الكلمات، ولطلابِه أبًا ومربّيًا قبل أنْ يكون معلّمًا، وغدا مُقدَّمًا عند زملائه أخًا وكبيرًا، لا يَذْكرونه إلَّا بخير، وكان صاحبَ طُرْفةٍ ونُكْتة، وكلُّ نُكاته أدبٌ وفنّ، وبرحيله –وكلّنا سيرحل- افتقدَه أحبّاؤه وطلّابه، ومثلُ إبراهيمَ يُفْتقد، لكنَّ عزاءنا بِفقد محمّد صلَّى الله عليه وسلّم أكبر، فهنيئًا لك أنْ متّ في المدينة؛ فأكرم بها من ميتة! وأعظمْ به من منزل!
أَمَاوِيّ! إنَّ المالَ غَـادٍ ورائِـحٌ/
وَيَبْقَى مِنَ المالِ الأَحَادِيثُ وَالذِّكْرُ
رحمَك الله أبا الوليد وغفر لك، ولعلَّ موتَك في المدينةِ فيه عاجلُ بُشْرى؛ فأنزلك الله منازل الصدّيقين، وتقبَّلك في الصّالحين. وأعظمَ الله أجرَكم أخي العزيز د. وليد، وأحسنَ عزاءَكم، ولا أراكم مكروهًا في عزيز.