هنا في المدينة المنوَّرة قبل ثمانيةِ أعوام، وفي أحدِ الأيّام قبيلَ صلاة المغرب، بينا ذهبَ ولداي لتعبئةِ ماءِ زمزم في الزاويةِ الشَّماليَّة الغربيَّة من ساحاتِ المسجد النبويِّ الشَّريف- كان حاجٌّ –أظنُّه أكملَ ثلاثةَ أرباعِ القَرن- يجلسُ وحيدًا في ذلك الرُّكنِ ينتظرُ صلاةَ المغرب، ينظرُ إليَّ كأنَّه يَعْرفني، وأنظرُ إليه كأنَّه جَدِّي هو هو، عيونُه تُناديني: اقتربْ منِّي، ورِجْلاي تَسوقانِني إليه: تَقدَّم إليه، فقد ضاقت به الألسن!
بادرته بالسَّلام، فقال قبل أنْ يردَّ التحيَّة بلسانِ ملهوفٍ أضاعَ ولدَه، أو سبيلٍ تاهَ في بيداءَ تَعصفُ به، ولا يعرف لها قبيلًا مِن دبير: أنت أردنيّ؟ فقلت: كأنَّك أردنيٌّ تبحثُ عن شبيهٍ بلسانِ حَوْران أو البلقاء؟ تَقدَّمتُ إليه، قبَّلته فاحتضنني، وقال: كأنَّ هذه البلادَ خَلتْ مِن عُربانها، فقد أعياني السؤالُ من غير مجيب. حضر ولداي وأشرتُ أنْ سلِّما على جَدِّكما الحاجّ سالم صالح اللوزيّ، حضر من الأردنّ ﻷداءِ العمرةِ مع زوجِه في سيَّارة خاصة، هو يقودُها مع تقدُّم سِنِّه، قبَّلا يديه، وأخذَ يَشمُّهما كأنَّهما قطعةٌ من كَبده.
صلَّينا المغربَ وجلسنا معه إلى صلاةِ العشاء، فانفتحتْ أساريرُه، وصالَ في الحديث وجال، وشرَّق فيه وغرَّب، وأعلمني أنَّه متقاعدٌ في جهاز الأمن العامّ، وفي الخدمة تَعرَّف إلى ثلَّة من أبناء بلدتي (عنبة)، عَرَّفَ بعضَهم وأعرضَ عن بعض. كان الرَّجل حافظةً لا تخونُه ذاكرة؛ يذكِّرني بالحاجِّ المرحوم محمد علي مناصرة (أبو زياد)، زوجِ عمَّتي من (بيت يافا)، والحاجِّ المرحوم صالح الطَّويل الجوارنة (أبو محمد)، والحاجّ المرحوم أحمد الشَّاويش الحوارنة (أبو محمد)، وغيرِهم ممن حَباهم الله وأكرمَهم بذاكرةٍ من حديد.
ثم راح الحاجُّ اللوزي وقد استجمعَ عافيتَه برؤيتنا، وضَحك كلُّ عضوٍ فيه، يُمازحُ ولديَّ، ويَطرح أسئلةً وأفانينَ في القول، طربَا لبعضها، وضَاقا بغيرها، وسَعدنا أيما سعادة بلقيا هذا الحاج الجميل.
بعد صلاةِ العشاءِ انتظرنا زوجَه، فحضرتْ وإذا بها صَبيَّة في الثلاثينيات، فعلمتُ أنَّها زوجٌ ثانية، فسلَّمنا عليها، ودعوتُهما إلى منزلي في المدينة المنوَّرة فاعتذرا، ثمَّ وَدَّعناهما وعيونُه ذرَفت حبَّاتٍ في صباحِ يومٍ صائفٍ شديدِ بياضِ السَّحاب، وأوصيتُها بالحاجِّ خيرًا، وقلت لها: قومي -يا خيَّتي- على خدمة هذا الحاج (فوق العادة)؛ فإنَّنا سنفقد بغيابهم كنوزًا وذخائر.
علمتُ اليوم من أحدِ الأصدقاء، أنَّ الحاجّ سالمًا انتقل إلى رحمة ربّه في منتصفِ أكتوبر (الكورونيّ) الماضي، فاللهُ يرحمه ويغفر له ويتقبَّله في الصّالحين.