الفُسْتان
- "أفياء للإِدارة. أَحضِري معكِ حقيبتَكِ".
- أصواتُ فتياتٍ خلفي: "أفياااااااء خُذيني معك." (التفتُّ نحوهُنَّ بابتسامَةِ مُجامَلَة).
فِي ٣٠/١١/٢٠٠٦، تَحْدِيداً في حِصَّةِ (الليترتشير) - تعلَّمتُ في ذلك الصَّفِّ أَنَّ مَعناها (أَدَب) لكنَّنِي لم أفهمها على أيّةِ حال- قَرَّرتُ أن أتجاهلَ الـ"تستستست" الَّتي خَرَجَتْ مِنْ مُعَلِّمَتي، وأصَدِّقَ الابتسامةَ على وجهِ ابنةِ عَمِّي الَّتي قاموا بِمنُاداتها أيضاً مِنَ الصَّفِّ الـمُقابِل لِصَفِّي. خفتُ قليلًا عندما حَمَلَتْ الـمرشدةُ حقيبتي وطَلبَتْ منّي أن أرتديَ الجاكيت، إذ كان لُطفاً منها غيرَ مُعتاد. وخِفتُ كثيراً عندما وصلنا الإِدارةَ ورأيتُ مُساعِدةَ الـمديرةِ تَبكي: "... عظَّمَ اللهُ أَجْرَكُم..."، تجمّدتُ لِلَحَظات، لكنّ دُعائِي (يا رب مش ماما ... يا رب مش ماما يا رب مش ماما يا ربّي... أي حدا... أي حدا... أي حدا غير ماما) - جَعَلَني أمشي.
سألتُ زوجةَ عَمّي: "مين مات؟".
- صمتٌ مِنها، وكلُّ ما هو عكسُ الصَّمتِ في عَقلي الّذي بدأَ يعملُ بسُرعةٍ هائلة. جَمَعَ جميعَ البياناتِ عن أقاربي، حَلَّلَ كلَّ الـمُعطيات، وَرَتَّبَ مَنْ مِنَ الـمُمْكِن أن يَموت. كنتُ أَنا أدعو احتياطاً على جميعِ مَنْ خَطَرَ بِبالي. لَم يَسلَم مِنّي إلَّا الأشخاصُ الّذين كانوا يتحرَّكون أَمامي. أَمّا هو –عَقْلي- فكانَ يُقلِّلُ الاحتمالاتِ، كي يُعطِيَني دعاءً منطقِيّاً لا يذهبُ سُدى، ونتيجَةً أقلَّ ألَما. قامَ بإقصاء أقارِبي مِنْ جهةِ أُمّي؛ إذ طُلِبَتْ مُغادَرةٌ لابنَةِ عَمِّي أيضا، وأخذَ بِعَينِ الاعتبارِ مَنْ هو كبيرٌ في السِّنّ؛ مَنْ يُدخِّن؛ مَن هو مُتهوِّرٌ وَمِنَ الـممكِنِ أن يَموتَ بحادِث؛ مَنْ يُسافرُ كثيراً... وأنا في الأثناءِ أدعو وأدعو (يا رب مش ماما... يا رب زَبيبة... يا رب أبو نامق..... يا رب أبو نامق). شَعرْنا أنَّ أبا نامِق هو الخيارُ الأنسَب وأكمَلْنا الدَّرجَ و(يا رب هو مش ماما يا رب هو مش ماما) هو كلُّ ما بِبالي، إلى أن وَصلْنا السَّاحةَ الخلفيّةَ للمدرسة. هناك طَلبتْ مِنّي زوجةُ عَمّي الجُلوسَ.
- "أفياء الجسد مثل الفستان إحنا منلبسه بس بالآخر منضطرّ نخلعه فـ..."
وأنا كُنتُ ما زلتُ مُصرَّة ً: (يا رب أبو نامق اللّي خلع الفستان، يا رب أبو نامق... اللي خلع فستانه... يا رب).
لم يَخلعْ أبو نامق فُستانَه إِلى الآن. هناك آخرونَ خلعوا فَساتينَهم. جَدِّي خَلَعَ فُستانَه، جدَّتي خَلَعَتْ فُسْتانَها، لمْ أعُد أحْسِبُ فكما تعلمون (الكثيُر يخلعُ فُستانَه هذِه الأَيَّام). وكلُّ ما خَلَعَ أحدٌ فُستانَه أبكي...، أبكي على الفُستان، على فستانِ أُمِّي.
الحذاء
قالَتْ جَدَّتي مُواسيةً نَفسَها إنَّ عَمَّتي "جميلة" ماتَتْ لأنّها كانَتْ أجملَ مِنْ أنْ تَعيشَ: "وجهها ليسَ وجه عِيشة". يبدو أَنَّ وجهي وَجهُ عيشَةٍ (زيادة عن اللُّزوم).
تلكَ الصِّيصانُ الَّتِي تُباعُ في الدَّكاكِينِ تموتُ بِسُرعة، إلَّا أَنّ هُناك صوصاً وحيداً استطاعَ والدُ صديقَتي أَنْ يُنقذَه. ذلكَ الصُّوصُ كانَ مُتمرِّداً يُدخِلُ نفسَه كثيراً إلى الـمنزِل، وكانَ أهلُ صديقَتي يُمضونَ سنةً وهُم يُحاولونَ إخراجَه. ذلكَ الصُّوصُ كَبُرَ، وأصبحَ ديكاً، وتَعَلَّمَ كيفَ يَقفِزُ مِنَ النّافذةِ إلى داخلِ منزِلِهم، وبَقِيَ على هذهِ الحالِ إلى أَنْ نَحَرَتْ علبةُ الطُّون رَقَبَتَهُ بينما كانَ يُحاوِلُ أَنْ يَأكُلَ، فَقَطعَ شِريانَه و(طَرَشَ) مَنزِلَهُم بِدَمِهِ حتَّى خَرَجَتْ آخِرُ قَطرةٍ مِنهُ وَتَحَوّلَ إلى كُتلَةِ جِلدٍ فارِغَةٍ فَمات.
منذُ الصَّباحِ عرفتُ أَنَّ الـ"ساوند تراك" لهذا اليَوم ستكونُ: "أُمّك ميتة". تختلفُ الخلفيَّةُ مِنْ يومٍ إلى يومٍ أو من مَوقفٍ إلى موقِف: أحياناً، مثلاً، تُصبحُ "ماتت" بَدَلَ "ميتة". صَدّقيني، "ماتَت" أفضَلُ مِنْ "ميتة"، لأنَّكِ إنْ كنتِ تُحبّينَ شخصاً – أو على الأقَلّ أحببتِه – لن ترغبي بأن "يُنعَتَ" بالموتِ ثُمّ تصُبِح تِلكَ الصِّفةُ نَعتاً لَكِ أنتِ. قُلتُ لها إنَّني أَعرِف. حاولتُ ألّا أَسمَعَ صَوتَ الأُولى كثيراً وجررتُ الثّانيَةَ مِنْ يَدِها حتَّى تستيقِظَ وَأقنعتُها بضرورةِ الذَّهابِ إلى الجامِعَةِ لأنَّ ضميرَها سَيُؤَنّبُها إِنْ لم نَذهبْ وستجعَلُنا جميعاً في حالةٍ مُزريَة.
لا أحدَ سيفهمُ ماذا تَعني سِتَّةٌ مِنْ عشرينَ في امتحانٍ ليسَ أَيَّ امتحانٍ، بَلْ امتحانٌ يعتمدُ على الأرقامِ، ومن الـمفترضِ أَنَّ تلك الأرقامَ هي الشَّيءُ الوحيدُ الَّذي أجيدُهُ إلى أنْ أصبَحتُ لا أُجيدُها منذُ فقدتُ الأملَ بأنّي سأتمكَّنُ مِنْ رُؤيَتِكِ ثانيةً أو أسوأ: منذُ بدأتُ أشعرُ بأنّي لَمْ أعُدْ أهتمُّ. فقد قرَّرتُ الآنْ وقد كانت ذِكرى وفاتكِ العاشرَةُ قبلَ ثلاثةِ أَيَّام – أي إِنَّ عَدَدَ السَّنواتِ الَّتي مضتْ على وفاتكِ أصبحَتْ أكثرَ مِنْ تلكَ الَّتي عشتُها معكِ - أنّي سأتوقَّفُ عَن الحُزن. لم يَعُد ذلكَ الحزنُ مُتعلِّقاً بكِ أو بي، فلم أعُدْ أتذكَّرُكِ واعتَدتُ عَدَمَ وجودِكِ إلى الحدِّ الَّذي يجعَلُني عاجزةً عَنْ تخيُّلكِ معي. إنَّ ذلكَ الحُزنَ هنا، دونَ سَبَب. يَنبُوعُ ماءٍ ساخِنٍ إِلى حَدِّ الحرقِ أحياناً، ويُخبرونني دائماً بأنَّ عليَّ تركَهُ وهَدمَهُ لكنَّهُم لا يخبرونني عن كمِّيَّةِ العَطَشِ الَّتي سَأَشعُرُ بها بمُجرَّدِ شعوري بأنّي بدأتُ أَبتَعِدُ عَنه.
يقولُ لي عندَما أبتعدُ: بدايتي معكِ لم تكنْ منذُ الأزل. لا أدري متى خلقتني ولا أتذكَّرُ. أتذكَّرُ مَسحَ دُموعِكِ وقراءةَ القُرآنِ على رأسِكِ كما كانت تَفعلُ أُمُّكِ الَّتي أصبَحَتْ أنا، وبَعدَها أصبَحتُ الكثيرَ من الشُّخوصِ، فكُنتُ كُلَّ شَخصٍ تفتقدينَه.
أخبَرتني أَنَّ حياتَكِ فيلمٌ يَكثُرُ فيه الاختِفاءُ دونَ لَحظاتِ وَداعٍ. يبدُو أَنَّ الـمُخرِج يَكرَهُها، لكنَّكِ تُحبّينَها فَأَهَمُّ ما في اللِّقاءاتِ والقِصَصِ عِندَكِ هي النِّهاياتُ. لكِنَّ نهايتكِ دائماً (مَقطوشة)، إذ حاولتِ أن تجعليني أختَفي دُونَ وَداعٍ. أَخبَروكِ أيضاً أنّي حشرةُ بَقٍّ أَمتَصُّ دَمَكِ وَحَياتَكِ وصَدَّقتهم. لكِنَّهُم لم يُخبروكِ أنَّني من أنقذتُكِ مِراراً وتَكراراً. مَسَكتُ يَدَكِ لأَنَّكِ تَكرَهينَ لَمسَ جِلدِ الكائِناتِ البَشَرِيَّةِ، تَكرَهِينَ لَمسَ جِلدهِمْ لكِنَّكِ تَجلِسينَ مَعَهُم وأنتِ على عِلمٍ بِأَنَّكِ بحَاجَةٍ لَهم كحَاجَتِكِ للطَّعامِ الَّذي لا شَهِيّةَ لنا عليه. فِي رأيي أَنتِ لا تَحتاجينَهم. تُفقدينَني صَوابي حينَ تَتَحَدَّثينَ معهمْ، حَتَّى إنَّ شَفَتَيكِ تتشقَّقانِ وجلدَكِ يَسيحُ ككَرامتكِ الضّائِعَة. أفياء استَيقِظي، لا داعيَ لَهُم، أنا هُنا. أعلمُ أَنَّهُم أَطلَقوا عَليَّ العديدَ مِن الأَسمَاءِ كالاكتئابِ أو الذُّهانِ و(ما علينا). أقولُ لَكِ أنا حاميكِ أرجوكِ دعيني وحدي أربطُ لَكِ حِذاءَك.
3. البُكلَة
"أَحيانًا أَتَمَنّى لو أَنَّني أَملِكُ إِجابَةً سَهلَةً عَن لماذا أَنا مُكتَئِب، مَثلًا لِأَنَّ والِدَيَّ اعتادا ضَربي أَو لأَنَّنِي تَعرَّضتُ للتَّحَرُّش. لكِنَّ جَوابي أَقلُّ درامِيَّة."
-من فيلم It’s Kind of a Funny Story (2010)
هل ستكونُ إِجَابَتي أَنَّ أُمّي ماتَتْ وأنا في التَاسِعَة مِن العُمرِ إِجابَةً سَهلَةً؟ أَلَيسَ مِن الـمُفتَرَضِ أَن تَكونَ دراميَّةً بما يَكفِي... أليسَ مِنَ الـمُفتَرَضِ أَن أنعَتِقَ مِن ذلِكَ السُّؤالِ إلى الأبد؟ لا أَتَوَقَّعُ أَنَّ هُناك إجابَةً دراميَّةً كافيةً، فَجَميعُنا يَعرِفُ "مَن عاشَ أَسوَأ"، إِذا لَم نَكُن جَميعَاً قَد عِشنا أَسوَأ.
في الصَّفِّ الرّابعِ فِي الفصلِ الّذي تُوفِّيَت فيهِ أُمِّي، قَدّمتُ وَرَقَةَ امْتِحَانِي في اللُّغَةِ الإنْجِلِيْزِيَّةِ فارِغَةً. سُئِلْتُ بَعْدَها عِدّةَ مَرّاتٍ عَنِ السَّبَبِ، وَأَخْبَرْتُهُم أَنَّني لَمْ أَعْرِفِ الإِجَابات. كُنْتُ قَدْ دَرَسْتُ جَيِّداً، وَمَا زِلتُ –حَتَّى الآنَ- أتذكَّرُ القِصَصَ الَّتي كانَ عَلَينا أَن نَقرَأَها. لَم أَكُن أُحِبُّها ولم أَكُن أَجِدُهَا مَنطقيَّةً، فَواحِدَةٌ مِنها كانَت تَتَحَدَّثُ عَن رَجُلٍ يابانِيٍّ عَاشَ الحَربَ ورأى النَوَوِيَّ وماذا فَعَلَ بِأَهلِهِ إِلَّا أَنَّهُ سافرَ وَرَأى العالَمَ وَمِن كُلِّ بِقاعِ العالَمِ الّتي زارَها لَم يَجِد إلّا كاليفورنيا لِيُحِبَّها أَكثَرَ مِن أَيِّ شَيء! في الصَّفِّ كُنتُ أنا الفَتاةَ الوَحيدَةَ القادِمَةَ مِن مَدرَسَةٍ حُكومِيَّةٍ، وكُنتُ سَيِّئَةً جِدَّاً في الإِنجلِيزِيَّةِ وَكُنتُ أَكرَهُ مُعَلِّمَتي كَثيراً. فِي الامتِحَاناتِ الشَّهرِيّةِ فَعَلتُ كُلَّ ما أَقدِرُ عَلَيهِ وَلَم أَرسُبْ في أَيٍّ مِنها، إلَّا أَنَّني فِي هذا الامتِحانِ شَعَرتُ بِالْمَلَلِ فَقط وَلَم أَكُن أَرغَبُ فِي أَن أُفَكِّرَ، وأَتَذَكَّرُ أَنَّها كانَتِ الـمَرَّةَ الأُولَى الّتي كانَ فيها شُعوري بِالـمَلَلِ قادِراً على أَن يُوقِفَ أَيَّ جُزَيئَةٍ مُتَحَرِّكَةٍ في جسمي. بَعدَ الحِوارِ وَالسُّؤالِ يَبدُو أَنَّهُم رَأَوا أَنَّ سَبَبَ ما فَعَلتُ هو أَنّي فَقَدتُ أُمّي. أنَا لَم أَكُن أرى هذا.
شَهِدَت كُلُّ المَدارِسِ الّتِي دَخَلتُها مَرّاتٍ عَديدَةً جدّاً على تَأَخُّري عن الدَّوامِ. كانَ السّؤالُ "أَينَ أُمُّكِ عَنكِ" حاضِراً دَوماً، وكانَت فُرصَةً ذَهَبِيَّةً لأُجيبَ بأنّها مُتَوَفّاةٌ فِي نَفسِ لَحظَةِ البَهدَلة، وَبَعدَها لَم يَعُد أَحَدٌ يَرغَبُ في أن يُحاسِبَني. عِندَما كانَت أُمِّي عَلى قَيدِ الحَياةِ كُنَّا جَمِيعاً نتأخَّرُ على الـمَدرَسَةِ مَعاً، لِأَنَّها كانَت مُعَلِّمَةً فيها، وكُنتُ إِن لم أَكُن أرغَبُ فِي فِعلِ شَيءٍ لا أفعَلُه. لا أَعتَقِدُ أَنَّ "أُمِّي ماتَت" يُفَسِّرُ أَيَّ شَيءٍ عِندي إِلَّا أَنَّني حَزينَة. لا يَحتَاجُ الأَمرُ إِلى تَحلِيلٍ نَفْسِيٍّ عَميق. أَنا فقط حَزينَةٌ على وَفاتِها.
حَزينَةٌ لأنّي لا أَتَذَكَّرُ إِلَّا شِبهَ مُشاجَرَةٍ مَعَها. كَانَت هُناكَ (جُرحَة) على فَمِي وَعِندَما سألتنِي عَنها أَخبَرتُها أَنَّي جَرَحتُ نَفسي بِبُكلَةٍ لِأَنّي حَاوَلتُ أَن أُغلِقَ فَمِيَ بها. لَم تُصَدِّقني وزَعِلَتْ مِنّي، فَأَخبَرتُها أَنَّ فَتاةً اسمُها سارة قد ضَربَتني لكنّي لا أُريدُ مِنها أن تَفعَلَ شَيئاً لِأَنَّنا قد تصالحنا. كذبتُ لكي تُصَدِّقَني، وأنا على أيّةِ حالٍ لم أكُنْ أُحِبُّ سارة فَرَغِبتُ أن لا تُحِبُّها أُمّي معي. بَعدَها بِفَترَةٍ أخبَرتُها أَنَّني كَذَبتُ عليها لِأَنّي لم أَكُن أَرغَبُ في أن تَزعَلَ مِنّي، فَأَخبَرَتني أَنَّ عَلَيَّ أَن أَقولَ الحقيقةَ حَتَّى لو كانَت هي أو بابا أو أَيُّ أَحَدٍ سَيَزعَل. حَزينَةٌ لِأَنّي وَقتَها لم أفهَم أَهَمّـِـيَّـةَ أن تَقُولَ لي أُمّي أَنَّ هُناكَ أُمورَاً أَهَمَّ من رِضاها عَنّي، ولِأَنّي لم أُطَبِّق ما قَالَت حَتَّى بَعدَ وَفاتِها. بَقِيتُ أُريدُ رضاها، وكُنتُ أَعتَقِدُ أَنَّنِي إذا لم أُصَلِّ صلاةً واحِدَةً فَإِنَّ رَبِّي سَيُخبِرُها قصَّةً سيِّئَةً طَويلَةً عَنّي وَسَتَكرَهُني وكانَت هي الشَّخصُ الوحيدُ الَّذي لا أُريدُهُ أن يكرَهَنِي.
حَزِينَةٌ لِأَنِّي أَملِكُ الآنَ الكَثيرَ مِنَ الأُمُورِ الَّتي سَتُزعِلُها حَقَّاً لَكِنّي لَم أُعطَ الفُرصَةَ لأعرِفَ رَدَّةَ فِعلِها؛ لِأَنّي أُرِيدُ أن أُشَاهِدَ مُسَلسَلاتٍ عَرَبِيَّةً لَكنّي لا أَعرِفُ كَيفَ بِدونِها؛ لأَنّي الآنَ فَقَط كَبيرَةٌ بما يَكفِي لِأَستَمتِعَ مَعَها بِأَغانِي أُم كُلثوم وَأَقولَ لهَا نَعَمْ إِنَّها تُحَبُّ أَكثَرَ بِكَثِيرٍ مِنْ فَيروز، وَلِأُخبِرَها أَنّي لا أَعرِفُ ما الَّذِي تُحِبُّهُ في عَبد الرَّحمن مُنيف وأنَّنِي وَجَدْتُ كِتاباتِه مُمِلَّةً. حَزينَةٌ لِأَنّي لا أَعرِفُ مِمَّا تُحِبُّ إِلَّا أُمّ كُلثوم وعَبد الرّحمن مُنيف.
حَزينَةٌ لأنّي لا أعتَقِدُ أَنَّني قد تَعَلَّمتُ حِسَّها الفُكاهِيَّ الَّذي كانَ يَحضُرُ فِي أَصعَبِ الأَوقاتِ بِطَرِيقَتِها الَّتي لا أَحَدَ سَيَسبِقُها فيها، أو تَعَلَّمتُ مِنها كيف أضحكُ عَلى بُكائي عِندما لا يَستَحِقُّ الأَمرُ، أَو تَعَلَّمتُ كَيفَ أقُولُ بِطَرِيقَتِها ومن غير اسَتِفزاز: "طَيّب إنتَ ليش كثير معَصِّب؟" حَزينَةٌ لِأَنَّنِي نَسِيتُ النَّبرَةَ عِندَما كانَت تُنَاديني: "أَفيووؤة where are you؟" عِندَما تَكونُ في مِزاجٍ جَيِّد.
حَزِينَةٌ لِأَنَّ أَحلامِي الَّتِي كَانَت تَتَمَحوَرُ حَولَ عَودَتِها للحياةِ والَّتي كانت تَصِلُ أحيانًا لِتَفَاصيلَ مُرعِبَةٍ كَخُروجها من القبر ثُمّ مَشيِها من عَجلُون إِلى أَبو نصير على أقدَامِها أو العَكس قَلَّت كَثيراً، وكذلكَ ذَهابُنا إِلى عَجلونَ عِندَها. أَنا حَزِينَةٌ لِأَنَّ حُزني اختَلَفَ، فَما كانَ يُحزِنُني بَعدَ وَفاتِها اشتِياقي لها، لِمُحَادَثاتِها وَلَعبِها مَعِي، لِنَومي بِجانبِها وهي تُقِيمُ اللَّيل. بعدَ سَنَواتٍ طَوِيلَةٍ أَصبَحَ عِيدُ الأُمِّ يُحزِنُنِي قَلِيلاً فقط، وأصبَحَتْ تُصيبُنِي غَصَّةٌ عندما أَسمَعُ قِصَّةً جَميلَةً عَن أُمِّ أَيِّ أَحَد. لَم أَكُن أرغَبُ في أن أكونَ هذا الإِنسانَ؛ لم أرغَب بأنْ أحزَنَ لِأَنّي فَقَدتُ أُمَّاً.
4.الجِلباب
عندما كانت صَدِيقاتُ أُمّي وأقاربي يُخبِرونهَا أَنَّها تُدَلِّلُني أكثَرَ مِن اللّازِم وَأَنَّها سَتُفسِدُني وَأَنّي مُتَعَلِّقَةٌ بِها كَثِيراً، كانَتْ تُجيبُ بِأَنَّهُم لَن يَفهَموا لماذا لِأَنَّ أَفياء لَيسَت ابنَتَهُم. ولأَنّي لا أَملِكُ جُملَةً أَكثَرَ جَمالاً مِن هذِهِ، أَقولُ إِنَّهُم وَحدَهُم الَّذين أُمُّهُم سَمَر سَيَفهَمُونَ ماذا يَعني أن تعيشَ مَعَ سَمَر وماذا يَعني أن تَفقِدَ سَمَر.
أُمّي،
هذِه أَوَّلُ مَرَّةٍ أَبدَأُ حديثي مَعَكِ ومُخَاطَبَتَكِ بِنِيَّةٍ مُسبَقَة. لم أَتَحَدَّث مَعَكِ مُنذُ وَفاتِكِ رَغمَ أَنَّ العَدِيدَ أخبَروني بِأَنّهُ سَيَكونُ مُريحَاً، لكِنّي لم أقتَنِع يَوماً بِأَنَّكِ سَتَسمَعينَني، وحَتَّى مَعَ شَكّي أحياناً لَم أرغَبْ يَوْماً بِأَنْ أَجعَلَ الأشياءَ مُبتَذَلَةً تُعْيِي الـمَعِدَة، لَيسَ وأنا وَحدي عَلى الأَقَلِّ. بِصَراحَةٍ لم أرغبْ بِأَن تَكوني قادِرَةً عَلى سماعي، بل كانَ كابوساً أن تَعْرفي كُلَّ شَيءٍ عَنّي أو حَتَّى لَمحَةً، إِذ لم أَعتَقِد يَوْماً أَنَّني فَتاةٌ جَيِّدَةٌ بما يَكفي، لِعِدَّةِ أَسبَابٍ مَنطِقِيَّةٍ أو غَيرِ مَنطِقِيَّةٍ لا داعِيَ لِأَن أُفَصِّلَ فيها. بِـالـمُجمَلِ لا أعتَقِدُ أَنَّ أَحَداً سَيَكونُ مُرتاحاً لِفِكرَةِ أَنَّ أُمَّهُ تَراهُ فِي كُلِّ مَكان.
أُمّي،
لم يَحدُث الكَثِيرُ بَعدَ وَفاتِك. ابنَتُكِ ما زالَت تَبكي على عَلاماتِها. أَمَّا الشَّخصُ الَّذي أَهمَلَ تَنظيفَ الأَدَواتِ في الـمُستَشفى فَإِنَّهُ لا يَعرِفُ شَيْئاً عَنْكِ، وهو الَّذي إِذا سقطتْ بُقْعَةُ شايٍ على قَميصِهِ سَيُسرِعُ بِغَسيلِه. آسِفَة أُمّي لِأنَّكِ كُنتِ أَقَلَّ مِنْ بُقْعَةِ شاي.
عائِلَتي الَّتي أُحِبُّها ولَعَلَّها الشَّيءُ الوَحيدُ الَّذي بَقِي لِي وأُدافِعُ عَنهُ بِكُلِّ ما أوتيتُ مِنْ قُوَّة، أَعْتَبِرُها مَجْموعَةً مِنَ النَّماذِجِ للحَياةِ الَّتي لا أُريدُ أَنْ أَعيشَها. وأكبَرُ نَمُوذَجٍ أَخافُ أنْ أكونَه هُوَ أَنْتِ يا أُمّي. في الواقِعِ لا أعلَمُ عَنكِ الكَثيرَ ولا أَفهَمُ الأُمُومَةَ. كُلُّ ما أَعرِفُهُ أَنّي لا أُريدُ أَنْ أموتَ ورَقَبَتي نِصفُ مَفتوحَةٍ تارِكَةً خَلفي سِتَّةَ أبناءٍ السّادِسَةُ مِنْهُم تَكْتُبُ بِهذِه الطَّريقة عَنّي. لَعَلَّ فِكرَةَ التَّضحِيَةِ أصبَحَتْ إِهانَةً بالنِّسبَة لي، وَيَبدو أَنَّني سأَختارُ أَنْ أَكونَ تِلْكَ التُّفَّاحَةَ الَّتِي لم يَصِلْها أَحَدٌ فَتَعَفَّنَتْ وَحدَها وَأَكَلَها العَفَنُ حَتَّى تَلاشَتْ.
أُمّي،
بَعدَ مُرورِكِ بِتِلكَ الأشهُرِ الَّتي كانَ القَدَرُ يُعَاقِبُكِ فِيها وَيَسخَرُ مِنكِ (لَعَلَّهُ لم يَنسَ أَنَّكِ تَحَدَّيتِه عِندَما أنقَذتِني من الـموت فَأَخَذَ مِنكِ كُلَّ ما تُقَدِّسينَه؛ شَكْلَكِ، نَشاطَكِ...)، وَبِطَريقَةٍ لا أَجِدُ أَكْثَرَ حَقارَةً مِنها، انتَقَلَت روحُكِ، وَشَعَرتُ بِأَنّي أَضَعتُ كُلَّ شَيءٍ. لم تَكُن تِلكَ الـمَرَّةَ الأولى الَّتي أَشعُرُ فيها بِمِثلِ هذا الضَّياع، فَأَنا قد أضعتُكِ مَرَّةً حينَ لَحِقتُ امرأةً في السّوقِ لِأَنَّها كانَت تَرتَدي جلباباً أَسوَدَ، ولم أكتَشِفْ أَنَّها ليست أنتِ إِلَّا عندما تَشَبَّثتُ بِها. أُخِذْتُ لِغُرفَةِ الأَمنِ وكانَ هُنالِكَ ثلاثَةُ أطفالٍ ضائِعينَ غَيْري. سَأَلَني رِجالُ الأَمنِ إذا كُنتُ أَعرِفُ (اسم ماما غير "ماما"). أَجَبتُهُم بِسُرعَةٍ: "سمر يوسف طالب المومني". ضَحِكوا ونادوا عَلَيْكِ باسمكِ الرُّباعِيِّ فأتيتِ أنتِ وإِخوانِي لِتأخُذوني وأنتُم تضحكونَ أيضاً -أمَّا أنا فَكُنتُ أبكي- وَأكمَلنا التَّسوُّقَ بِطَبيعِيَّةٍ. الآنَ أَضَعتُكِ لا لأنّي لَحِقتُ جِلبَاباً أسوَدَ آخَرَ فلم أَعُدْ أفعلُ هذا ولم يعُدْ تَذَكُّرُ اسمِكِ الرُّباعِيِّ كَفيلاً بإيجادِك.