كنت ازوره كل خميس، ونتناول طعام الغداء معا في بيته في جبل الحسين، وهنا اتحدث عن استاذنا الراحل جورج حداد، كنت طالبا ادرس الصحافة في سنتي الثالثة.
كان هو كاتبا صحفيا شهيرا، وغداء الخميس كان مهما جدا، اذ تعلمت من الراحل ان لا أكون إقليميا ولاطائفيا ولا جهويا، كان يحدثني عن وحدة الهلال الخصيب، واننا جميعا أبناء امة واحدة، كان يصب في روحي، المبدأ الأهم، أي ان يعتبر أبناء هذه المنطقة، امة واحدة، لا فرق ولا تمييز، كلهم ينتمون الى جذر قومي واجتماعي واحد.
إذ كنت طالبا ترك هذا الكلام في اثرا كبيرا، حتى يومي هذا، خصوصا، ان ذلك التأثر الفكري كان مبكرا، ومنطقيا، فتتصالح مع نفسك ولاتعادي أحدا.
غير اننا كنا نتحدث كثيرا عن شخصية بارزة، يتوجب انصافها اكثر، كان يحدثني عن ذكرياته وعلاقاته بالشهيد وصفي التل، رئيس وزراء الأردن، كان يروي لي حكايات كثيرة، عن هذه الشخصية التي لم ترحل، وبقيت حية في الذاكرة، وباتت رمزا للقيادة ونظافة اليد والعفة والوطنية، هذه الشخصية التي اثارت جدلا كثيرا، لكن كل هذا الجدل، لم يفلح في إيذاء صورته، ولا سمعته، بل بقي رمزا للشرفاء في الأردن وفلسطين معا.
رحل وصفي التل، والذين غدروه، لا يمثلون الشعب الفلسطيني، فالشعب الفلسطيني بريء من دم وصفي، واذا كانت بنادق هؤلاء مستأجرة لهذه المهمة، فلا احد يعرف من هو المستأجر الأساس، ولا البعيد، فهناك من أراد ان تدب فتنة في الأردن، على خلفية حادثة الاغتيال في القاهرة، وقد حدث مرارا في العالم العربي، ان يتم استئجار تنظيمات وفصائل، لتنفيذ عمليات امنية تحت عناوين محددة، فيما العنوان الأصلي، والمستأجر البعيد، غير معروف، فالأسهل اختراق أي تنظيم فلسطيني، او تنظيم إسلامي كما هذه الأيام، لتنفيذ اجندات لا يعلم بها الا الله، وهذا وضع شهدناه في الأردن، وسوريا، ولبنان، ودول أخرى، بحيث لا يظهر القاتل الأصلي.
هذا الكلام ليس تبرئة للقتلة المجرمين، بل من اجل الحض على جهد سياسي وامني واعلامي، للبحث عن سر القصة من أساسها، دون ان ننكر هنا، ان الشهيد وصفي التل بريء أيضا من دم الفلسطينيين، فالرجل لم يحارب المقاومة الفلسطينية، وكانت كل القصة ان بعض من انتسب الى هذه المقاومة، وبتحريض من أنظمة قومية عربية، وجراء الاختراقات من دول واجهزة كثيرة، تحولت الى جهات تتبنى الفوضى في الأردن، وتريد ان تدخل في مواجهة مع الدولة والجيش، وهذا امر لا يقبله الشرفاء، فالمعركة لم تكن مع الأردن، أساسا، وكل محاولات الوصول الى حلول، لم تؤد الى نتيجة، فكانت النهاية المحتمة، اما ان يضيع الأردن، ويلحق بفلسطين، تحت وطأة الخراب، واما ان يسلم الأردن، وسط تهديدات المشروع الصهيوني.
الشهيد، كان مناضلا ومقاتلا، حمل البندقية في فلسطين، ومشروعه وهو في مواقعه كان ضد إسرائيل، كان يؤمن بالمقاومة حتى من خلال الأردن، وربما اعتراضه المشروع، كان على الفوضى، وعلى جر المدن الى صراع الفصائل، مع الدولة والجيش، وهو لم يكن إقليميا أيضا، ولهذا لا يصح أيضا ان يتم توظيف مكانته في أي كلام إقليمي، فلا هو ضد الشعب الفلسطيني، ولا الشعب الفلسطيني ضده، بل ان هناك شهادات لشخصيات فلسطينية، انصفت الرجل.
الفاعل الأساسي، أراد عدة أشياء، أولها التسبب بفتنة دموية في الأردن، على خلفية استشهاده، وثانيها وأد مشروع الوقوف في وجه إسرائيل، وغايات أخرى، ليس هنا محل سردها، وبهذا يمكن ان يقال ان المستفيدين من استشهاده اطراف عدة، بما يفرض علينا ان نحلل عميقا، وان لا نقف فقط، عند الدعائية للمجموعة المستأجرة، التي نفذت الجريمة، والتي لا يعرف احد حتى الان، من هو مستأجرها البعيد في الظلال، وماذا أراد تحديدا من الاغتيال والتوقيت؟
لقد بقي الشهيد وصفي التل حياً، في نفوس الأردنيين، فهو نموذج النزاهة ونظافة اليد، رئيس الحكومة المنحاز الى الفقراء والناس، رئيس الحكومة الذي مات مديناً، رئيس الحكومة الذي يبحث الناس عن شبيه له، بقي وصفي حياً، في قلوب من يقرأون قصة حياته.
رحم الله الشهيد، فقد كان اكثر من رئيس وزراء، كان واحدا من الناس ولهم، لا عليهم.
(الغد)