من المعروف أن السعي للسلطة وإشغال المواقع العامة في الدول التي تمارس الديمقراطية الحقة لا يتأتى إلا من خلال إقناع الناس بالفكر السياسي أو بالبرنامج الانتخابي للحزب الذي ينتمي إليه الفرد وفرصه في تحقيق الخير والمنفعة للمجتمع. في ظل هكذا أجواء وبيئات ديمقراطية فإن تقلد المناصب الحكومية العليا في الدولة لا يصبح من أجل الشهرة والجاه الشخصي للفرد وإن تحقق ذلك فهو نتاج ثانوي لنجاح الحزب وقياداته في تسويق برامجها الانتخابية للجماهير. وقد أصبح مألوفا أن تجد بعض الشخصيات التي تحتل مواقع عامة في الدول الديمقراطية تقوم بالاستقالة من مواقعها لتلتحق بالعمل في القطاع الخاص غير آبهين بالشهرة الإعلامية لأن السلطة أصلا في تلك المجتمعات ليس لها البريق الهائل والجذب السحري الذي نراه في معظم الدول النامية.
وضعنا في الأردن وفي ظل غياب للأحزاب الحقيقية فإن التنافس السياسي للوصول لمواقع السلطة بغرض التأثير في الحياة العامة وتحقيق الخير للمجتمع وحل معضلاته ومشاكله يكاد يكون كلاما نظريا يعوزه المحتوى والنوايا الصادقة طبعا باستثناء حزب جبهة العمل الإسلامي التي لديها على الأقل من وجهة نظرها برنامجا للتعامل مع قضايا المجتمع في جوانبه المختلفة في حال وصولها لمواقع القرار، وما رفض الجبهة لعروض للمشاركة في حكومات سابقة إلا دليل على أن هذا التجمع يسعى للسلطة ليس على أسس شخصية وسعيا للجاه والوجاهة والزعامة ولكن لتحقيق أهداف ورؤى محددة في إدارة شؤون الدولة.
إن شغف الكثير من الأردنيين للوصول إلى المواقع الوزارية والنيابية أو ما دونها بواعثه المجد والشهرة وتحقيق المكانة الاجتماعية والدلالة على ذلك تخلي معظم الحزبيين وكثير من المعارضين الذين احتلوا مواقع عليا في الدولة عن مبادئهم السابقة وتبرئهم من أفكار أحزابهم البعثية والتقدمية والإصلاحية وغيرها. ويمكن الذهاب لأبعد من ذلك للقول إن مثل هذه الشهوة للسلطة وبريقها قد عصفت بجبهة العمل الإسلامي التي شهدت مخاضات واهتزازات وجاهر بعض أعضائها برغبتهم في استلام مواقع رسمية تحت ذريعة التأثر من الداخل وليس من الخارج وقد حصل ذلك فعلا وتقلد أحد أبرز منظريهم موقع متقدم كان من المستحيل عليه تقلده سابقا.
كثير من المتابعين للشأن العام يلحظون بشيء من الغرابة كيف أن السعي للسلطة وبريق الشهرة الشخصية يدفع ببعض أقطاب المعارضة ليبتعد عن حركته لينضم وزيرا في الحكومة حيث لم يتمكن من مقاومة حب السلطة والوزارة؟ أحد المعارضين يقول إنه يعارض "ليقترب أكثر". شخصيات نعرفها أو نعرف عنها أنها تحمل أفكاراً معارضة تنقلب بين عشية وضحاها بسبب فتات قدم لها ومواقع لها أسماء وبريق ولكنها خالية من المحتوى والمهام. أحد الوزراء السابقين منع من إكمال دراسته العليا في إحدى الجامعات الحكومية بحجة أنه "خطير أمنيا" وتم إلغاء قبوله ليعود بعد أربع سنوات مستشارا في رئاسة الوزراء ثم وزيرا في الحكومة وناطق باسمها ليصبح مدافعا شرسا عن الحكومة ومنظرا للوطنية فهل كان معارضا أصلاً؟، أم ساع للسلطة وبريقها لأننا لم نر له برنامجا ولا حزبا ولا تكتل سياسي ينتمي إليه. أحد المعارضين القدامى استسلم عند أول منصب عرض عليه وتخلى عن أفكار المعارضة التي أشبعنا كلاما عنها لا بل أصبح ينضم شعرا ويكتب نثرا في مدح الحكومات وعدالتها.
حب السلطة لدى كثيرا من الأردنيين هو من أجل الجاه والزعامة والبريستيج وليس حبا في الخدمة العامة وتنافسا للوصول إلى مواقع القرار لحل مشاكل الناس والنهوض بالمجتمع وتطويره. حب السلطة يفسد أعدادا كبيرة من الأردنيين ويشجعهم على ممارسة سلوكيات النفاق السياسي والتزلف للمسؤول الذي بيده كل شيء، ويكافئ المادحين والمؤيدين، ويحرم المعارضين ويجزل العطاء للمنشقين عن أحزابهم لينتقلوا إلى معسكر الموالاة. المقلق أكثر من ذلك أن هذا النفاق والتزلف لذوي السلطة بأمل الحصول على موقع هنا أو هناك أصبح سلوكا مؤسسا ولا يخفي أصحابه وممارسيه البوح به والمجاهرة فيه دون خجل أو وجل حيث يظهرون هذا السلوك وكأنه ذكاء ومهارة"وشطارة" يتمتع بها أصحابها ليصبحوا هم ذاتهم من أهل السلطة.
التهافت المستعر للوصول إلى السلطة من أجل الشهرة والوجاهة وليس من أجل الخدمة العامة والوطن خلق وعزز نمطا من الازدواجية في المواقف السياسية حيث يكون للشخص موقف معلن يتحدث فيه عن الصالح العام والوطن والعدالة والمساواة في حين ينحى منحى شخصي ومصلحي ضيق عند الحديث مع خاصته والقريبين منه.
إن تعدد الخطابات لنفس الشخص وحول نفس القضية تبعا للجلسة والمصالح الشخصية المتوخاة تخلق حالة نفاق وانفصام سياسي يصعب التخلص منها في المستقبل المنظور وفي الوقت ذاته سيكون لهذا النمط السلوكي تبعات وتأثيرات على الأجيال الحالية والمقبلة نظرا لتجذر قيم التزلف والنفاق من أجل الوصول للسلطة طمعا بالجاه الشهرة والمصالح الذاتية على حساب المصلحة العامة، ولا أعلم كيف يمكن التنظير على أبنائنا وطلابنا في المؤسسات التربوية في المدارس وكليات التعليم المتوسط والجامعات بأن التفاني والإخلاص والعدالة والكفاءة وخدمة الوطن هي سبيل كل مجتهد للوصول لأعلى مواقع الدولة في الوقت الذي يرون فيه بأمهات أعينهم الوقائع على الأرض عكس ذلك، ويرون كيف ينجح الممالئون والمنافقون والمتزلفون والباحثون عن المجد والشهرة في اصطياد المواقع القيادية في الدولة. سيبقى عدد كبير من المواطنين ينظرون إلى الإصلاح السياسي في الأردن بعين من الشك والريبة ما دام أن الممالئين والمنافقين والعطشى إلى الشهرة والجاه يتم مكافئتهم بالمواقع العليا أو ما دونها.