مع ذكرى وصفي التل .. شهيد الأردن وفلسطين
جمعة جهامة
28-11-2020 01:22 PM
كما يسقط الجندي الباسل في المعركة، كذلك سقط وصفي التل في معركة أمته، في أوج اندفاعها!
ولقد سلك وصفي التل سبيل الجندية لخدمة هذه الأمة من زمان، ودخل ميدان المعركة من أيام دراسته في الجامعة، حين انضم إلى تلك المجموعات القليلة من الشباب العربي، التي تتطلع إلى أمجاد العروبة، من وراء ركام الواقع المبعثر في كل اتجاه، وتربط وجودها بالعمل لإزالة هذا الركام، وفرض التجمع على مزع هذه الأمة من أجل العودة إلى تلك الأمجاد.
وحين دخل وصفي الميدان السياسي، دخله باندفاعة الجندي، وحمل أعباء الوزارة بحماس من يرفض الاعتراف بالمستحيلات، في محاولة الوصول بالأردن إلى البلد "النموذج".
وعلى الرغم من كثرة الأحداث الغلابة، فإن وصفي لم يفقد شعلة حماسه، فكان يعود إلى الوزارة بنفس الهمة، مع رغبة خالصة في تجنب الأخطاء السابقة، وتخطي العراقيل المكشوفة أو المستورة في زوايا الطريق، وكتل الضباب.
لقد كان وصفي التل من أولئك الرجال القلائل الذين اختزنوا التجارب المرة ووعوا تفاصيل الكوارث أسباًبا ونتائج، فقد عاش القضية العربية سنوات الوعي الأولى، ومشى في طريقها ليواجه الموت في مظانه في أكثر من خندق، وفي أكثر من ميدان من ميادين القتال على ربى فلسطين، فهو حين يتحدث عن التخطيط، وعن تسلسل واجبات العرب كافة، وعن دور العقل والخلق في المعركة، فإنما يصدر عن تجربة وممارسة، وعن معاناة، وكان إلى جانب هذه الخبرة المتميزة يتمتع بموهبة فذة في الرؤية البعيدة ووضوحها.
وبحرص المقاتل على سلاحه، ظل وصفي حريصا على التمسك بهدفه، مخلصا في رأيه، مؤمًنا به، جريئًا في الإعالن عنه، مهما كان مخالفًا لرأي الفرد، أو اتجاه الجمهور. هذه الجرأة المتميزة، أنبتت من حوله الخصوم، وأثارت في وجهه الزوابع، ولكنه بالإيمان والثبات كان على ثقة دائما من كسب سامعيه، مثلما كان على ثقة من الفوز والنجاح في نهاية المطاف، هذه الحقيقة يعرفها كل من دخل معه في مناقشة، أو تابعه في ندوة من ندواته، أو مؤتمر من مؤتمراته الصحفية الكثيرة.
قبل استشهاده بأيام كان يتحدث بعاطفة فياضة عن رفاق السلاح في فلسطين، وعن الذين مضوا منهم بوجه خاص، وكنت أحس أن الرجل إنما يتحدث عن أيام سعادته، وكأن ذلك المناخ وحده هو الذي يود العيش المستديم فيه.
ولقد لحق أبو مصطفى بأصحابه والمعركة على أشدها، وحين تهدأ العواصف، وينكشف الغبار سيعرف الوطن والأمة: أي رجل فقدوا في ندرة الرجال.
رحم الله أبا مصطفى، وغفر له، وجزاه الجزاء الأوفى بما قدم لأمته ووطنه.