الانتخابات النيابية الأخيرة ..
د.عبدالحكيم الحسبان
27-11-2020 04:47 PM
"السياسة" إذ تلد مخلوقا لا يشبه ما تلده "السياسات"
في العاشر من الشهر الجاري جرت الانتخابات النيابية الأردنية، وحيث أنجزت الحكومة الأردنية استحقاقا دستوريا وقانونيا جرى في ظروف استثنائية محلية وإقليمية ودولية غير مسبوقة. من نافلة القول، إن استثنائية السياقات المحلية والإقليمية والدولية التي اتخذ في خضمها قرار الانتخابات، والتي جرت فيها طقوس الانتخابات والطقوس التي تلتها، اتسمت جميعها بوجود استقطابات حادة وعميقة وعلى مستويات مختلفة.
لم ننس ولا ينبغي أن ننسى تزامن هذه الانتخابات مع هيمنة أجواء غير مسبوقة من انتشار جائحة عالمية لا نظير لها ولم يعرفها عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى. أجواء الجائحة خلقت جوا من الاستقطاب داخل دوائر صناعة القرار في البلاد بين عقل طبي علمي تقني يرى في صحة بدن المواطن وعافيته أولوية قصوى، وبين عقل سياسي وبيروقراطي وأمني يرى في صحة البلاد والدولة أولوية قصوى.
العقل التقني الطبي كان يرى في عقد الانتخابات مخاطرة في حين كان العقل السياسي والأمني يرى في الانتخابات ضرورة من أجل وطن قوي وعفي.
السياقات الإقليمية والدولية أيضا كانت في غاية الفرادة والاستثنائية، ما جعلها تولد هي أيضا استقطابا داخل أجهزة الدولة الأردنية وصناعة القرار السياسي فيها حول قرار إجراء الانتخابات من عدمه. قرار إجراء الانتخابات اتخذ في ظل تحالفات جديدة في المنطقة وبدايات لتشكل محاور يمتلك صانع القرار في الأردن كل الحق في أن ينظر إليها بتوجس بل بقلق كبير جدا. فالأردن يجد نفسه وللمرة الأولى وسط تحالفات إسرائيلية وخليجية مدعومة أميركيا قد تحاصره في الجغرافيا وفي السياسة وفي الاقتصاد إن لم يجترح في السياسة ويبتدع ما يكفي من الإجراءات والخطوات لتحمي جغرافيته السياسية التي دافع عنها وبشراسة منذ قرن ونيف.
في الظروف الاستثنائية جدا التي ولدت استقطابا بين عقل يدعو لإجراء الاستحقاق الانتخابي وآخر يدعو لتأجيلها، كانت العلاقة الأردنية الأمريكية عاملا هاما وحاسما. من كان عليه أن يتخذ قرار إجراء الانتخابات كان عليه أن يأخذ في الحسبان المستوى البارد غير المسبوق في العلاقة بين الدولة الأردنية وحاكم البيت الأبيض الجمهوري وحيث لم يسبق لهذه العلاقة أن وصلت لما وصلت اليه من برود بل ومن عدائية من قبل رجالات الإدارة الترامبية للأردن وقيادته. يكفي للتدليل على عدائية إدارة ترامب تجاه الدولة الأردنية الإشارة إلى رفض هذه الإدارة تسمية سفير لها في الأردن على مدى أكثر من ثلاث سنوات، كما يكفي الإشارة إلى عدد الزيارات الملكية القليلة جدا للبيت الأبيض مقارنة بعدد الزيارات المعتادة في تاريخ العلاقات بين البلدين.
ولعل أكثر الإشارات على العداء الترامبي للدولة الأردنية شعبا وقيادة تجسد في قيام إدارة ترامب بتعيين السيد ديفيد شينكر وهو التلميذ النجيب لسياسات اليمين الصهيوني مساعدا لوزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى وبما يجعله مسؤولا بل ومهندسا للعلاقات الأردنية الأمريكية. أجزم أن الإدارة الأمريكية على مدى تاريخها لم تجلب للعمل معها شخصا بمستوى كراهية وعدائية السيد شينكر للدولة الأردنية. فالسيد شينكر وقبل وصوله لموقعه في وزارة الخارجية كان يتلطى في ثوب الصحافي والباحث الأكاديمي المتخصص في الشأن الأردني، وكانت كتاباته عن الأردن لا تنتمي إطلاقا للبحث العلمي والصحفي بقدر انتمائها للدعاية الصهيونية ضد الأردن وقيادته. ومن ينظر في تاريخ السيد شينكر يجد أن ليس لهذا الرجل مشروع خاص بمنطقة الشرق الأوسط بل إن لديه مشروعا خاصا لخنق الأردن ولبنان وسوريا ومحاصرتهم اقتصاديا وسياسيا.
والحال، فانه وعلى مدى سنوات ثلاث عاش الأردن مستوى غير مسبوق من الضغوط والعدائية في السياسة كما في الاقتصاد من جانب الإدارة الأمريكية، ومن جانب مهندس سياستها تجاه الأردن السيد ديفيد شينكر. وللإشارة إلى حجم الضغوط غير العقلانية على الأردن والتي كان يمكن أن تشكل ليس خطرا على الأردن فقط بل وعلى المصالح الأمريكية نفسها، من المهم الإشارة إلى الزيارة غير المسبوقة والمفاجئة التي قامت بها زعيمة مجلس النواب الأمريكي الديموقراطية نانسي بيلوسي إلى عمان ولقائها بملك البلاد في حماة الضغوط الأمريكية على الأردن، وكي تبعث إشارة حول رفض الديمقراطيين للمسار الجنوني الذي سلكته إدارة ترامب والسيد شينكر تجاه الدولة الأردنية. أجزم أن هزيمة ترامب وعودة الديموقراطيين للبيت هو حدث سار وهام لمسار العلاقة الأردنية الأمريكية مستقبلا.
في الانتقال من السياقات والاستقطابات التي جرت الانتخابات وسطها وفي خضمها، الى الانتخابات نفسها وما ترتب عنها من نتائج، فلا بد لعين المراقب والمتابع أن تلحظ أيضا تلك المفارقات التي تمخضت عنها تلك الانتخابات النيابية. كما كان مثيرا للعين والعقل أيضا تلك المفارقات والمشهديات التي إثارتها الانتخابات في طرائق التعبير عنها عبر وسائل الإعلام التقليدية وعبر السوشال ميديا.
في الانتخابات النيابية الأخيرة وبكل مكوناتها، إن كان لجهة قانون الانتخاب، وأن كان لتقسيم الدوائر الانتخابية، أو لجهة الترشح للانتخاب، كما لجهة التصويت، كما لجهة نمط الدعاية الانتخابية كما طرق الاحتفال بها، كانت المشهدية تكشف بوضوح عن تفاوتات وتباينات باتت تسم الجسم الاجتماعي والسياسي في الأردن. ففي الانتخابات الأخيرة كشفت الأرقام المتعلقة بنسب المشاركة في التصويت عن
تفاوتات ملحوظة في نسب المشاركة بين عمان والزرقاء من جهة، وبين المحافظات الأخرى. نسبة المشاركة في عمان كانت هي الأقل.
عزوف عمان وعدم انخراطها في السياسة يأتي استمرار لعدم انخراط سكان عمان في انتخاب أمين عمان، أسوة بمدن المملكة الأخرى.
الأرقام لا تكشف فقط عن تفاوتات في نسب أعداد المشاركين في التصويت بين عمان ومحافظات المملكة الأخرى، ولكنها بالمنظور الانثروبولوجي تكشف عن حقيقة هامة أخرى. فالانتخابات كانت في الترشح والتصويت وطرائق الاحتفال بالنتائج تشير إلى أن الانتخابات كانت جاذبة للشرائح الأكثر ريفية وعشائرية، ولكنها كانت اقل جاذبية للشرائح الاكثر مدينية وأكثر عولمة. المراكز الأكثر تحضرا ومدنية كعمان، كانت نسبة المشاركة فيها منخفضة جدا، في حين كانت نسب المشاركة عالية في المناطق الاقل مدينية وتحضرا وفي المراكز والمناطق الأكثر ريفية وعشائرية.
في اللغات الأوروبية وحين يجري الحديث عما نسميه في اللغة العربية ب"السياسة" فانه يجري التمييز بين ثلاث مستويات هي ال polity وال policy وال politics يتم ترجمتها للعربية وللأسف باستخدام مفردة واحدة هي كلمة "سياسة". فالاول polity هو الأكثر ماكروية وهو يشير إلى كل النظام السياسي بكل عناصره البنيوية وبجل فاعليه السياسيين، في حين يشير المصطلح الثاني policy إلى الإجراءات والتشريعات التي تتعلق بإدارة قطاعات معينة من قبيل السياسات المتبعة لإدارة القطاع الزراعي او الصناعي أو السياسات التي تتعلق بقطاع الصحة والتعليم العالي. وأما مصطلح ال politics فهو يشير إلى العناصر الأكثر ميكروية في السياسة أي تلك الممارسات والتكتيكات التي يتبناها الفرد ويمارسها كي يحقق أهدافه حتى في اصغر الفضاءات الاجتماعية والسياسية.
على مدى عقود طويلة نجح الأردن كثيرا في "السياسات". في عقود قليلة نجحت السياسات في نقل المجتمع من مجتمع أمي بالمطلق إلى مجتمع خال من الأمية بالمطلق، وفي عقود قليلة تم تحقيق ما يشبه المعجزات في قطاعات التعليم العالي والصحة والطبابة والزراعة والصناعة والنقل. كل هذه النجاحات في "السياسات" الزراعية والصناعية والتجارية والتعليمية عملت على تغييرات عميقة في البناء الاجتماعي الأردني وحيث تحول معظم السكان من تربية القطعان والفلاحة في الأرياف والبادية إلى قوة عمل تمارس النشاط الحرفي والصناعي والخدمي والتجاري في المراكز الحضرية والمدينية. ومنذ سنوات الستينيات بدأت عمان والزرقاء تتحولان إلى مراكز مدينية وحضرية وبتسارع غير مسبوق.
في نظريات أنثروبولوجيا المدينة والقرية ثمة تمييز بين طرائق عيش سكان المدينة والقرية. كما ثمة تمييز بين منظومات القيم والمعايير والمنظومات السلوكية والمفاهيمية والمعرفية التي تسود في المدينة وفي القرية. المدينة هي نقطة تجمع وتركز النخب الأكثر تعليما وثقافة وعولمة وحيث تسود المفاهيم والميول الأكثر مدنية وعلمانية وعقلانية بفعل أنماط العمل الإنتاجي السائد, وفي المدينة تتحلل كثيرا الروابط الأولية من عشائرية ومناطقية وطائفية لتظهر بدلا منها روابط أكثر حدائية ومدنية ومواطنية. وفي القرية تنتعش الروابط الأولية من قرابية وعشائرية، كما يزدهر الاتصال الوجاهي والشخصي، كما تكون التفاعلات اليومية الاقتصادية والاجتماعية تخضع لتأثير العلاقات الشخصية والقرابية والعشائرية. في السياق الأردني، نجحت السياسات الاقتصادية والصحية والتنموية مدفوعة بموجات الهجرة الفلسطينية والعراقية في خلق مراكز أكثر مدينية وحضرية وفي زمن قياسي.
وفي الانتخابات الأخيرة، نجحت "السياسة" في تنظيم الانتخابات تقنيا وإداريا وأمنيا وسط مشهد صحي وطبي داخلي حرج، ووسط محيط إقليمي مضطرب ووسط سياسات ترامبية معادية، ولكنها لم تنجح في مواكبة تلك النجاحات التي سبق لل"سياسات" أن سجلتها وراكمتها. السياسات نجحت وعلى مدى عقود طويلة في خلق تحولات عميقة في قطاعات الزراعة والصناعة والتجارة والبنوك والقضاء والتعليم العالي لتخلق مراكز حضرية ونخبا متعلمة، ولكن "السياسة" لم تكن بمستوى الأداء والمأمول لتتمكن وتنجح في دمج الشرائح الأكثر مدينية وحضرية في المشاركة في الانتخابات النيابية لتتمكن ومن خلال حضورها في مجلس النواب أن تقود المجتمع، وان تكون قاطرة للتحديث الاقتصادي والاجتماعي والقيمي والأخلاقي في المجتمع الأردني.
في وصف العالم العربي خلال حقبة الخمسينيات والستينات وحيث كانت تسيطر الانقلابات العسكرية، لطالما قيل أن العالم العربي تسيطر عليه المدينة اقتصاديا ولكن القرية تحكمه من خلال الانقلابات العسكرية التي كانت تجري وحيث معظم عناصر الجيش وقياداته في البلدان العربية كانوا يأتون من الأرياف. وفي الانتخابات النيابية الأخيرة، أخشى أن تكون "السياسة" قد فوتنا فرصة ثمينة لنواكب تلك التطورات العميقة التي تحدث داخل الجسم الاجتماعي والتي نجحت "السياسات" التعليمية والطبية والاقتصادية في خلقها على الأرض على مدى العقود الماضية.