عشت ليالي الشتاء طفلا متحلقا مع عائلتي حول (كانون الفحم) وإبريق الشاي العتيق يهدر فوقه بكل فخر، ثم (تقلطنا) واشترى الوالد الرؤوم (صوبة بواري) عتيقة كنت أقضي وقتي أراقب حبيبات الكاز وهي تندلق من دورقها العملاق الى الداخل فتزداد النار توهجا ونزداد دفئا. مراهقا: أدركت الاجيال الأولى من صوبات الكاز ذات الفتائل المتعددة، ثم الفتيل الدائري الذي ما يزال شغالا أمامي حتى الان.
رجلا: دخلت مرحلة صوبات الغاز وهي مرحلة لم أتجاوزها بعد، ولا أرغب في ذلك، فقد تعلمت ان النار فاكهة الشتاء التي لا أستطيع الاستغناء عن تعاطيها، فهي أول اكتشاف رائع للانسان، ولا أستبدله بحرارة تتسرب مثل اللصوص والجراذين بين المواسير، حيث تجعل درجة حرارة المنزل ذات درجة الحرارة التي نشكو منها في الصيف.
بالمناسبة فقد عشت الربع قرن الأول من حياتي في بيت طيني بقناطر و (قباسي) خشبية تدعم السقف و(دلف) دائم كنا نتقيه بتوزيع الصحون والجرادل في أنحاء البيت.
رغم ذلك كان الشتاء فرحتنا، فقد أدركنا، ربما، بشكل غامض بإن المطر خير وأنه يشق رحم الارض لتلد لنا عشبا نتقاسمه مع الحيوانات، وقمحا وفريكة وعدسا وغلالا متنوعة. لذلك كنا نتحمل البرد والشقاء والمزاريب والدلف في سبيل الخير القادم.
اولئك الذين لم يعيشوا حياتنا وبيئتنا، تعرفت عليهم في عمان بعد أن بلغت من العمر عتيا. اكتشفت ان الكثيرين يكرهون الشتاء والمطر. فهو لا يدخل مباشرة في نمطهم المعيشي وهم لا يلتقطون الخبيزة و(اللفيتة) ولا يبحثون عن (البزيزة) و (بز الكلبة) في البراري. ولا ينخسون الارض بحثا عن (الكمأ) ولم تتجرح ايديهم في تلقيط (المرار) والبصّيل وغيرها من أعشاب الأرض التي كانت تشكل لنا غذاء مجانيا نحتال فيه على وحش الفقر! هم يتمتعون بخيرات الشتاء في المتاجر ومحلات البقالة والخضروات، وخزانات بيوتهم ممتلئة بالماء، لكنهم لا يعرفون أن قسوة الشتاء هي التي تجيء بالخير على الجميع.
النار فاكهة الشتاء
والشتاء فاكهة الحياة
مرحبا بالرعود والمطر. مرحبا بالحياة!!
الدستور