فرق كبير بين أن تصر على الموت وتتمناه في الدنيا التي استخلفك الله فيها لتعميرها وبين ان تضع الموت بين عينيك وان تسعى بكل جهدك لبناء دنياك من أجل عمارة آخرتك، فرق كبير - ايضا - بين ان تعلن وفاتك وأنت حي فتنحاز الى الكسل وتتثاقل الى الأرض وتعتزل الناس وتقطع علاقتك مع الكائنات وتندب حظك العاثر وتتكور على ذاتك وتختار الجهامة وتهرب من مسؤولياتك وبين ان تفهم الموت كمصير» لا بد ان يسبقه عمل وجهاد، ونهاية لا بد ان تذهب إليها وانت محمل بالأعمال الطيبة والطاعات، وكآخرة لا تعمر الا بالحياة :بالإقبال عليها في دائرة الحلال والعناية بها في إطار الاستعداد للجزاء، والتمتع بها والتأمل فيما تحمله من جمال.. دون إفراط او تفريط.
كثيرون يفهمون الموت من منطلق التشاؤم والخوف، فيعزفون عن استذكاره او التفكير فيه، ويتجاهلون ما بعده من جزاء او ثواب، وتأخذهم دروبهم في الدنيا الى الضلالة والمنكرات، ظنا منهم ان ساعة الرحيل بعيدة، وان الاعمار ما تزال مديدة، وان لحظة الموت تصيب غيرهم ولمّا تصلهم بعد.. وكثيرون ايضا يتماهون مع الموت حتى انك لا تفرق بينهم وبينه، ويعزمون على ربط حركاتهم وسكناتهم فيه، فيسيطر عليهم ويمنعهم من التفكير بالحياة، ولو شاء الله تعالى ان يخلقهم ميتين لما كلفهم بالامانة، واستخلفهم بالعمارة، وانتدبهم لإقامة خلافته على الأرض.
كيف نفهم الموت، اذن، وما ثقافته التي يجب ان تشيع بيننا، وهل بوسعنا اليوم ان نفك الاشتباك بين عمارة الدنيا وعمارة الآخرة، وان ننهي صورة المسلم الحزين المتجهم ونضع بدلا منها صورة المسلم الحي القادر على الابتسامة في وجه الحياة، العامل من اجل آخرته وكأنه يموت غدا، والمتمتع بدنياه وكأنه يعيش أبدا؟
باستطاعتنا ان نفعل ذلك اذا استقامت موازين فهمنا للحياة والآخرة، وادركنا ان الدنيا مزرعة الآخرة، وممر العبور اليها، وان ما نقدمه من خير وسعادة وما نتقرب الى الله تعالى به من طاعة وعبادة، وما نصبر عليه من اذى وما نتحمله من تضحيات، هو الرصيد الفعلي الذي نضعه في حسابات الموت الذي ننتظره، هذا الموت الجميل الذي لا نخاف منه ولا نخشاه لان رصيدنا فيه كفيل - بعد رحمة الله تعالى - بأن يحجز لنا مقعدا في الجنة، او لحظة رضا ربانية تقينا العذاب وسوء المصير.
يدعونا القرآن الكريم الى «الحياة» التي هي ضد الموت، الحياة المنتجة الفاعلة، الحياة التي تفضي الى الكرامة (الشهادة حياة والقصاص حياة) الحياة التي تخرج من رحم الايمان والعمل الصالح، الحياة النافعة، كما يدعونا الى ان نحيا في ظلال آياته التي تهدي الى الحق، والى الحياة الحقيقية التي يعيش فيها احياء حقيقيون، لا مجرد أموات في ثياب احياء.
صحيح ان الموت يقهر الإنسان العاجز عن فهم حكمة الله من الخلق، ويخيف المقصرين في طاعته، لكن الصحيح أيضا ان هذا الطائر الجميل يسعد عباد الله الصالحين الذاكرين، ويفتح أمامهم مدارج الوصول الى ربهم، ويلبي رغبتهم وشوقهم الى لقائه وشعار اولئك وعجلت إليك ربي لترضى.
(الدستور)