في إحدى القرى الوادعةِ بين أحضانِ الجبالِ، المُطلَّةِ -من جانبها الغربيّ- على ما تَراءى للنّاظرِ من رئةِ النَّهرِ الأخرى، في ساعاتِ الصّباحِ التي تُغازلُها أشعّةُ الشّمسِ بخيوطِها الذّهبيَّة- تَسكنُ (أمْ عليا) كغيرها من نساءِ الزّمنِ الجميل.
مَنحها الله لسانًا لافظًا، وقلبًا حافظًا، مَرْبوعةٌ عَفيَّة، فيها مَلاحةٌ وجَمال، وغَنيتْ بحُسنها عن كلِّ زينةٍ، حتّى بدا جمالُها وإنْ غارَ في قِصَر قامتِها آخذًا؛ فغِرْنَ منها نساءُ الحيِّ، وحَسَدنَها، وراقبنَها، وصِرنَ لها ضرائرَ: إنَّ وَجهَها لَذميمُ.
في غرفتها الوحيدةِ التي وَضَعتْ فيها سبعًا، كُبراهنَّ علياءُ (صبيَّةٌ، ناعمةٌ، ذاتُ روحٍ شَفيفةٍ)- غرفةٌ بُنيتْ من الحجارة والطّين، ذاتُ مِصْراعينِ من خَشب: يُثبَّتُ أحدُهما بخطّافٍ (شَنْكل) ذي طرفين: طرفٍ مَغروزٍ في الجدار، وآخرَ في المِصراعِ نفسه. وثانيهما طليقٌ يُغلقُ بمفتاحٍ كبيرٍ عند الحاجة- اعتادَ الصّغارُ يَصْعدون درجاتِها الثَّلاث، يأوون إليها في فصلِ الشّتاءِ بلياليه الطّوالِ، يَتحيَّنون عَودةَ زوجها في إجازتِه؛ يُسلّمون عليه، ويُصيبونَ ما لَذَّ من حَلواه...، يَتَحلَّقون حولَها دائرةً مُحكمةً بـ "فرجار"، كأنَّ على رؤوسِهم الطَّير، لا تَسمعُ لهم هَمسًا ولا رِكزًا.
إذا بدأتْ حكاياتِها الجميلة -وقد حَفظَتْها عن جَدّها لأمّها- أَصْغَوا إليها، وحَدَّقوا بقَسَماتِ وَجهها الجميلِ المُورَّدِ خَدّاه، وتَتابُعِ رُموشِ عينيها اللتينِ تَبدوانِ ناعستين، وحركاتِ يديها تُخفي ما ظَهر من خَصَلاتٍ شَذَّتْ عن جَديلتين مُخضّبتينِ لامعتين، يَبرزُ طَرفاهما مَنْفوشينِ أسفلَ "النُّقْبةِ" التي تُغطّي بها صَدرَها، تُثيرُ بهما غائبًا يرمُقها في سياقِ حكاياتِها المُمتعة.
قاصّةٌ تُحسنُ السَّردَ، وتُجيد حَبكَ قَصصِها، وتُغري صغارَها في مُتابعتها والنَّظرِ إليها، وقد أَعَدّت لهم لُفافاتِ زيتٍ وزعتر، وقِطعَ "هريسة" جادَ بها "المَزيون". فإذا بَدأت "الشَّاطر حسن"، بدا كلُّ واحدٍ أعينَ أنجلَ، يَتمايلونَ طربًا للبطلِ ومُغامراته، وحُسنِ تَدبيرِه، وحرصِه على مَقصوده وإنْ حالتْ دونه حَوائل، ويُصفّقون للرّاويةِ مَزهوِّين بِحُسن حديثها، ونَغَماتِ صوتِها الآخذةِ، فَتَطربُ (أُمْ عليا) لأرواحِهم النّقيّة، تُبدي ابتسامةً ساحرةً، تَميسُ في مجلسِها، تَهتزُّ غُصنَ بانٍ من شَدوِ ساجعٍ؛ فإنَّ هناك روحًا باتَ الشَّوقُ يُشتِّتُها، ويُبعثرها حركاتُ شقيٍّ سَكبَ "كوب شاي" على "مَصْطبة" يُغطّيها "مِدْرج"، وأصواتٌ تَعلو: "بَدْنا الشّاطر محمّد".