لجوء إنساني أم لجوء معرفي؟
د. سعد الزعبي
16-11-2020 10:13 AM
تؤدي حالات اللجوء الانساني التي قد تحدث لأي مجتمع الى احداث تغييرات اما ايجابية او سلبية على صعيد المجتمعات المستضيفة او في تكوينة اللاجئ نفسه بسبب دخوله الى مجتمع جديد قد يختلف كليا او جزئيا مع تركيبته الفكرية و الاجتماعية و الثقافية، والذي قد يزيد الأمر صعوبة بأن معظم اللاجئين عادة ما يكونون من الطبقات الفقيرة و ذات الظروف الصعبة اصلا و بالتالي يكون اللاجىء امام تحديات ليس من السهل تخطيها.
لقد تعارف العالم على ان مفهوم مصطلح لاجئ يعني اي شخص قد يتعرض للاضطهاد بسبب عرق أو دين او فكر او انتماء لفئة معينة أو بسبب رأي معين، مما يجبره على ترك ذلك المجتمع و اللجوء لمجتمع جديد يعتقد بانه اكثر امانا و يحميه مما قد يضطهده. و تعتبر سرعة اندماج اللاجئين مع مجتمعاتهم الجديدة من أسباب استقرارهم المعيشي والاجتماعي و البداية الحقيقية لهم لتجاوز الماضي و السير قدما ليمارسوا دورهم الطبيعي الإنساني في الحضارة.
مخطئ جدا من يظن و بسبب التداعيات العالمية الاخيرة بظهور فيروس كوفيد ١٩ بأنه في مأمن و بعيد بأن يكون في ظروف معيشية واقتصادية صعبه لا سمح الله. ان الاحداث التي مر فيها العالم خلال الأشهر الماضية ( و ما زال) تحمل في طياتها الكثير و كانت رسائل و ملامح العالم الجديد واضحة لمن يجيد أو يريد القراءة و استشراف المستقبل. هذه الرسائل حملت بين سطورها عناوين كبيرة لعالم جديد على الصعيدين الاقتصادي و العلمي و الذي سينعكس بدوره على باقي جوانب الحياة بدءا من الجوانب الثقافية و الاجتماعية و الفكرية و حتى الغذائية و التعليمية.
ان العالم على مفترق طرق في ظل الظروف الاستثنائية التي يعيشها من خلال وجود هذا المرض الفيروسي (كوفيد ١٩) ، و لولا الإجراءات الشديدة التي تتخذها الدول لأصبحت الوفيات بالملايين و لحدث تهاوي لاقتصادات كثير من الدول، و افقد ملايين العمال وظائفهم عالميا (حتى كتابة هذة المقاله عانت و تعاني العديد من الدول من هذه النتائج). و من النتائج المتوقعة ايضا لهذه الجائحة ركود و انكماش اقتصادي يذكر بما حصل قبل الحرب العالمية الثانية و ربما يكون أسوأ بكثير لا سمح الله.
اعود مرة اخرى لموضوع اللجوء و المقدمة السابقة و اقول انه يبدو ان العالم فعلا مقبل على نوع جديد من اللجوء الانساني غير المتعارف عليه سابقا و هذا النوع الجديد ربما نستطيع أن نسميه ب " اللجوء المعرفي و التقني". نعم لجوء تقني، فالعالم ينقسم و تتسارع الفجوة بين قطبين جديدين للسيطرة و السيادة على العالم، اقطاب جديده تبنى على نوع جديد من الاسلحة لا هي بالحارقة و لا بالقاتلة و لا بالباردة ايضا، انما هي سلاح جديد مبني على من يمتلك اكثر و اوسع و اشمل و اسرع من تقنيات و وسائل العلم و المعرفة.
ان كانت هناك حرب عالمية ثالثة قادمة - وربما أننا قد بدأنا فيها بالفعل و لا نكاد نستشعرها بسبب طبيعة هذه الحرب و اختلافها عن اية حروب تاريخية إنسانية سابقة- فهذه الحرب ضمنا غير تقليدية لا شكلا و لا مضمونا؛ في الواقع انها تتضمن صراعات عالمية للسيطرة على التكنولوجيا و المعرفة و الامن المعلوماتي. ربما بدا ذلك واضحا من خلال التنافس الشديد الاشبة بعقود الحروب الباردة في إيجاد لقاح فعال ضد فيروس كوفيد ١٩ و التسابق للاعلان عن امتلك ذلك اللقاح الذي سوف ينقذ البشرية على الاغلب . نعم للاسف بدا العالم متناحرا خلال الاشهر الماضية أكثر مما هو متنافسا و متعاونا لإيجاد اية وسيلة لإنقاذ ملايين من البشر محتمل اصابتهم و فقدانهم لحياتهم بسبب هذا المرض او بسبب ضعفهم الصحي المسبق. ان هذا التناحر بسبب ظهور هذا المرض دفع بشهية الدول الكبيرة لامتلاك التكنولوجيا و المعلومة لفرض الرأي و السيادة، فالشكل الجديد للسيادة العالمية القادمة هي سيادة العلم والمعرفة و التقنية، فمن يملكها يفرض نفسه و وجوده.
كشاب عاش و يعيش في اقليم عانى من اللجوء الانساني اكثر من اي مكان آخر على هذه الارض، اتمنى ان لا نكون لاجئين معرفة أو تقنية كأفراد ومجتمعات على المجتمعات التي سوف تملك التقنية و المعرفة المستقبلية. كشباب و مجتمعات تنظر بايجابية نحو الغد المشرق، فاننا نتمني ان نكون ممن لهم دور يساهم فعليا في حلقة التطور العلمي و المعرفي العالمي و ان يكون لنا دور ايجابي في سباق التسلح العلمي المعرفي الايجابي، خصوصا أن العالم ما انفك يصبح اصغر واصغر كل يوم بفضل التطور التقني.
كان الاردن و ما يزال ذو سمعة علمية اقليمية و عالمية و نتمنى ان نبقى كذلك. ان مخرجات مؤسساتنا التعليمية بالاضافة الى الجهود المتعددة و النوعية المبذولة من المؤسسات السيادية و الحكومية و شبه الحكومية؛ بالاضافة الى مساهمة القطاع الخاص بدعم المتميزين و اصحاب المعرفة، تؤهل الاردن لفرصة ذهبية للمزاحمة على مكان متقدم في سلم المعرفة و التقنية العالمي و ان نكون موجودين و مقيمين على منصات العلم و التطور و ان لا نكون ملحقين ضمنيا او لاجئين معرفيا.
لقد اهتمت العديد من المؤسسات الوطنية و استثمرت في قطاع الشباب من خلال الاهتمام بانتاجاتهم العلمية و براءات الاختراع و البرمجة بشكل خاص و ايضا من خلال اطلاق العديد من المبادرات التشجيعية للشباب في مجالات المعرفة و بالتالي الخروج بنتاج علمي مميز نأمل بان يضع الاردن على خارطة العالم المعرفية و التقنية و لو بشكل متواضع.
سنة الكون الفطرية تقتضي ان تتكافل الشعوب و تتبادل ادوات و وسائل الحياة و العيش المشترك و الهم الواحد و المعرفة العامة للجميع. ماضيا نهلنا ممن سبقنا و اضفنا و لم نبخل على غيرنا فازدهرت شعوب و تصدرت سباق العلم و المعرفة، و ها نحن الآن على مفترق طرق جديد علينا فيه ان نسلك الطريق الافضل و الانجع لمستقبل الاجيال القادمة وعلينا ان لا نضيع اي فرصة ممكنة لتحقيق ذلك. نعم، يجب ان نغتنم اي فرص ممكنه رغم ان التحديات و الظروف صعبه و تقتضي بان يذهب جل الدعم لتوفير وسائل الحياة الكريمة و تحسين ظروف المعيشة ، لكن ايضا ان اهملنا الانتباه بضرورة اللحق بركب التسلح العلمي و التقني فربما فعلا نكون لاجئين معرفة و تقنية لسنوات طويلة قادمة لا قدر الله و ستدفع الاجيال القادمة الثمن غاليا وقتها.
ان مرض فيروس كورونا المستجد كما نعلم جيدا و عايشنا، يلقى بظلاله الثقيلة جدا على الجميع و يضيف تحدي آخر على نوعية مخرجات عملية التعليم المدرسي و الجامعي، و رغم ذلك ما تزال و لله الحمد اصوات عالية قد استشرفت المستقبل و تملك اصرارا عاليا بان يكون القادم اجمل و افضل و خصوصا بان الشباب الاردني متواجدين محليا و اقليميا و عالميا و لهم بصمات علمية في اماكن تواجدهم على هذه المعمورة.
التحديات كثيرة و لكن الامال و الطموحات اكبر، فالجميع مطالب على الصعيد الشخصي و المجتمعي بان يساهم بدفع السفينة الوطنية التي تحمل عليها الكثير من المبدعين و المتميزين من ابناء البلد حتى لا نكون لاجئين معرفة، و في هذا الصدد لا بد من شكر كل المؤسسات الوطنية الرسمية و شبه الرسمية التي ما تزال تبذل جهود مميزة ليكون للاردن و شبابه و علمائه دورا على بر و بحر و جو و فضاء هذه المعمورة و الكون.
السلامة للجميع و القادم اجمل.