الفريق موس العدوان ينشر ذكرياته مع الباني في ذكرى ميلاده الـ85
الفريق الركن المتقاعد موسى العدوان
14-11-2020 03:42 PM
في هذا اليوم 14 نوفمبر/ تشرين ثاني، والذي يصادف ذكرى ميلاد جلالة الملك حسين طيب الله ثراه، أودّ أن أروي قصة تسامح، أسبغها عليّ جلالته قبل 32 عاما، وذلك شهادة لفضله ووفاء لروحه أمام الله والتاريخ، خاصة وأن بعض من شهدوها من الزملاء، ما زالوا على قيد الحياة أمد الله بأعمارهم.
فبعد أن أنهيت دورة كلية الحرب الأمريكية في منتصف عام 1987 وعدت إلى الأردن، رُفعت إلى رتبة لواء وعُينت قائدا للفرقة الآلية 12 الملكية. كانت الفرقة تشغل القاطع الشمالي الغربي من الأردن، بمساحة تبلغ 1572 كيلو مترا مربعا، وبواجهتين طولهما 180 كيلومترا، الأولى على نهر الأردن، مقابل الأراضي الفلسطينية المحتلة، والثانية على نهر اليرموك مقابل أراضي الجولان السورية المحتلة.
وفي أواسط عام 1988 شرع الحسين بزيارات مبرمجة إلى محافظات المملكة، كي يتحدث للمواطنين عن الأحوال السائدة في المنطقة سياسيا واقتصاديا وأمنيا. حُدد يوم الزيارة لمحافظة إربد في يوم صيفي جميل، وطُلب مني تولي النواحي الأمنية لزيارة جلالته، فأسندْتُ تلك المهمة لأحد قادة الألوية التي بإمرتي. كان برنامج الزيارة يتضمن هبوط الطائرة العمودية لجلالته، في جامعة العلوم والتكنولوجيا، ثم يستقل السيارة في موكبه الملكي، ليتوقف في موقعي تجمع للمواطنين، الأول في مدينة النعّيمة، والثاني في مبنى محافظة إربد.
هبطت الطائرة في الموقع المحدد ثم بدأ تنفيذ برنامج الزيارة، إذ توقف الموكب في مدينة النعيّمة وتحدث جلالته للحضور، ثم أخذ يتجاذب أطراف الحديث مع بعض شخصيات المنطقة. وخلال تلك الفترة اختلى بي القائد العام سيادة الشريف زيد بن شاكر عليه رحمة الله، وقال لي: "سيدنا شاهد أحد جنود الحراسات يؤدي التحية العسكرية برفع يده إلى جبينه، وهو يحمل البندقية باليد الأخرى". فقلت له: "إن الأوامر عند جنود الحراسات، بأن يتجهوا إلى جهة معاكسة لطريق الموكب، وأن لا يؤدوا التحية لأي زائر، لكون مهمتهم هي الحراسة وليس المراسم، وأن مرتكب هذا الخطأ هو مكلّف حديث الخدمة، وتصرف من تلقاء نفسه احتراما لجلالته ".
انتقلنا بعد ذلك إلى الموقع الثاني في مبنى محافظة إربد، وكان المحافظ آنذاك السيد جودت السبول رحمة الله عليه. وبعد حديث جلالته للمواطنين، راح كعادته يتحدث مع بعض شخصيات المنطقة. وفي تلك الأثناء أشار لي القائد العام بالاقتراب من جلالته، والذي بادرني بتكرار ما قاله لي القائد العام، فأجبته بنفس إجابتي السابقة للقائد العام، وبأنني سأتخذ الإجراء المناسب لاحقا.
بعد يومين دُعيت مع كبار ضباط القوات المسلحة، لاجتماع في إحدى قاعات مدينة الحسين الطبية، للاستماع إلى حديث جلالته حول الأوضاع الراهنة. وفي نهاية الحديث، عرّج جلالته على الاهتمام بالتدريب في القوات المسلحة وإعدادها لمهامها المستقبلية واستطرد قائلا: "قبل أيام كنت في زيارة لإحدى المحافظات، وشاهدت جنديا يؤدي التحية برفع يده بالتحية إلى جبينه، بينما يحمل في يده الأخرى بندقيته.. مش عارف هذا التدريب من وين جاي؟".
شعرت في هذه اللحظة أن هذا النقد موجه لي، فانتابتني موجة من الغضب الشديد كادت أن تفقدني صوابي.
وفي نهاية اللقاء دُعي الجميع لتناول طعام الغداء في قاعة أخرى. وبدأ الحضور بالنهوض من مقاعدهم والتقدم نحو جلالته للسلام عليه، والانتقال إلى قاعة الطعام، ولكنني وقفت في مكاني ولم أشأ التحرك، سامحا للآخرين بالمرور من جانبي على مرأى من جلالته، فلاحظ بحسه المرهف، أنني قد تأثرت بهذا النقد الذي تحدث به. وبعد بضع دقائق تحركت من مكاني وسلّمت عليه، حيث بادرني بالقول وبأدبه الجمّ: "يا أخي أنا متأسف.. وكان حديثا عابرا"، فأجبته بنبرة لا تخلو من الغضب: "بسيطة سيدي".
ذهبنا إلى قاعة الطعام، وكانت طاولة المنسف التي أقف حولها مع زملائي كبار الضباط، تبعد عن طاولة جلالته وبمعيته القائد العام ورئيس الأركان ومساعديه بضع خطوات. لم استطع تناول الطعام من شدة الغضب، إذ كنت أحس بأن مذاقه كمذاق التراب. فدعاني زميلي الذي كان يقف بجانبي اللواء الركن محمد سلامه الحويان رحمه الله، لتناول الطعام محاولا التخفيف من غضبي حول هذا الموضوع.
ولكني في تلك اللحظة انفجرت بصوت مرتفع سمعه جميع من كانوا في القاعة قائلا: "خمس شباب من القوات الخاصة استشهدوا في البحر الميت، نتيجة لخطأ بعض المسؤولين.. ما حدا سمع عنهم.. صاروخ انطلق خطأ من طائرة مقاتلة وهي جاثمة على الأرض ودمّر طائرة أخرى.. ما حدا سمع عنه.. أمّا مكلف أدى التحية خطأ.. لازم يسمع عنه كل الناس في الأردن..!
كان من ضمن الواقفین إلى جانبي أیضا مدیر الأمن العسكري، العمید الركن ذیب سلیمان، فانطلق إلى القائد العام وأشعره بغضبي الشدید، فقال له سیادته ناديه ییجي عندنا. فعاد إلي ذیب وقال بدھم إیاك عندھم، فأجبته بصوت مرتفع: "أنا ما بدي إیاھم.. ولا بدي المكان اللي ھم موجودین فیه" وخرجت فورا من القاعة.
بعد یومین من ذلك الاجتماع، اتصل معي مساء القائد العام الشریف زید شخصیا من منزله، وأبلغني بأن جلالته سیذھب عصر غد یوم الجمعة إلى السن (في منطقةّ أم قیس) لیقضي بعض الوقت في استراحته ھناك. كان موقع الاستراحة عبارة عن بنایة ريفية بسیطة، تطل على مناظر جمیلة في الأراضي الفلسطینیة المحتلة
وبحیرة طبریا من جھة الغرب، وھضبة الجولان المحتلة من جھة الشمال. فسألته ما ھو المطلوب مني؟ فقال تتواجد ھناك لتكون في استقباله فقط.
تواجدت في المكان بالوقت المحدد، وأحضرت معي قائد اللواء المسؤول في المنطقة العمید الركن محمد كریشان. ھبطت الطائرة العمودیة الوحیدة التي كانت تقل جلالته والملكة نور مع بنتیھما الصغیرتین في الموعد المحدد، فتقدمنا ورحبنا بھم. وقبل أن یتوجه جلالته إلى استراحته، وضع یده على كتفي ورحنا نسیر منفردین لمسافة قصیرة، لیسألني عن أحوالي وإن كنت بحاجة لشيء معین؟ فأجبته بأنني بخیر ولا ینقصني شیئا، سوى الدعاء بسلامة جلالته وسلامة بلدنا.
ولكن جلالته أعاد العرض علي مرة ثانیة، سائلا إن كنت أنا أو عائلتي بحاجة لأي شيء لیوفره لنا، ولكنني أكدت ما قلت له قبل قلیل، شاكرا له اھتمامه بي وبعائلتي.
عند ذلك أبدى رغبته بزیارته للفرقة والاجتماع بمرتباتھا، فرحبت بزیارته في أي وقت. أمضى جلالته بعض الوقت في استراحته وعاد إلى قصره في عمان، ثم نفّذ زیارة الفرقة في وقت لاحق.
ھذا ھو الحسین المتسامح، والقائد الذي كان یقرأ نفسیات جنوده ویراعي مشاعرھم.. ھذا ھو الحسین الذي كان یعرف الطبیعة البشریة ویحترم أبناء شعبه. فقد اعتذر لي عن حدیثه في قاعة المدینة الطبیة بعد دقائق فقط من إنھاء حدیثه، لم یحقد ولم یحاسبني على ثورتي الغاضبة ومغادرتي قاعة الطعام، خلال وجوده، بل جاء إلى الفرقة التي أقودھا، للاعتذار عن تلك القصة العارضة، بأسلوب الملوك العظماء المتواضعین، الذین یقدرون من یعمل بمعیتھم في خدمة الوطن بشرف وإخلاص.
استمریت في قیادة الفرقة بعد ھذه الحادثة لمدة سنتین، ثم عینت مساعدا لرئیس الأركان للقوى البشریة، وبعدھا للتخطیط والتنظیم والحرب الإلكترونیة، لما یزید عن خمس سنوات، حیث رفّعت خلالھا إلى رتبة فریق، قبل إحالتي إلى التقاعد في أوائل عام 1995.
عندما نتذكر الحسین في یوم میلاده، وبعد 21 عاما على غیابه، إنما نتذكر عھد البناء والتطور في الأردن إبان حكمه، سیاسیا واقتصادیا واجتماعیا، وتبوأ الأردن مكانة رفیعة بین دول العالم. ولھذا امتلك الحسین قلوب جنوده ومواطنیه، فیذكرونه بالخیر كلما أشرقت الشمس، أو ھطلت حبات المطر على تراب الأردن، ویفتقدونّه كلما ادلھمت علیھم الخطوب داخلیا وخارجیا.
في الختام لا یسعني إلا القول: رحم الله الحسین المتسامح، باني حضارة الأردن، ومالك قلوب شعبھا حیّا ومیتا، وأسكنه جنة الفردوس الأعلى مع الشھداء والصدیقین، َوحسن أولئك رفیقا..!