جدلية المعاصرة والاصالة في الفكر العربي الحديث
راكان المجالي
02-04-2010 04:51 AM
يؤرخ كثيرون لبداية الاتصال بين المسلمين والعرب والغرب بحملة نابليون في العام 1798 ، مع ان الصحيح هو ان بداية التعرف تحققت في زمن الدولة العثمانية في العام 1720 ، عندما اوفد السلطان احمد الثالث الى باريس محمد جلبي للتعرف على الجوانب الثقافية والادارية ، وخرج الوفد بنتيجة ان البون شاسع والتناقض حاسم ونهائي ، لكن ما يقوله المؤرخ المصري عبدالرحمن الجبرتي 1854 - 1822 صحيح عندما يشير الى ان الهوة بين العرب والغرب سحيقة وان العرب لم يعوا ذلك الا بعد الحملة الفرنسية.
وقد بُهر كثير من المفكرين العرب بنمط الحضارة الغربية ابتداء من رفاعة الطهطاوي الى حد ان البعض تجاهل تطور الفكر الاسلامي في حقب التاريخ المختلفة والذي بنى الغرب تقدمه على الاسس النظرية لهذا الفكر الذي نقل تراث الحضارات القديمة ، كما تجاهل الابداعات الفكرية للعرب في بناء المجتمع ابتداء من المواردي وصولا الى ابن خلدون ، ويجدر التأمل بواقع تطور الفكر العربي في مواجهة تباين الرأيين حول مسألة التربية العربية حسبما يقول الاستاذ منح الصلح ، ففي مقابل منبهرين بالغرب ، درجوا هنا وهناك على القول ان الازمنة الحديثة بالنسبة للعرب بدأت مع مدافع حملة نابليون على مصر نستمع اكثر فأكثر الى من قال ويقول ان هذه الأزمنة انما كانت بدايتها قبل ذلك ، وبصورة أصح مع مقدمة ابن خلدون ، وما دام الموضوع الذي نتكلم فيه متوجها بطبيعة مفرداته الى هموم الحاضر بالدرجة الاولى ، يحسن بنا ان نتوقف قليلا لشرح التباين في تجديد بداية الأزمنة الحديثة.
فها هناك عقليتان تتواجهان: عقلية ترى في دخول نابليون الى مصر بداية زلزال من التحديث على طريقة الغرب وفرنسا بالذات في تقبل كل ما طرح من افكار ومقاييس وما أنشأ من مؤسسات وما رأى من حلول للمشكلات في ما يشبه الوعد بتحويل الشرق الى اوروبا اخرى ، شكلا ومضمونا ، وخاصة شكلا ، وتقوم هذه العقلية على الفرضية الضمنية بأن الحملة البونابارتية ، وان كانت بالاصل هادفة الى خدمة مصالح فرنسا ، الا انها شكلت تحديا لحالة محلية متردية ، فوضعت العرب والمسلمين امام مشهد التقدم ليصبحوا اسرى حلم هو حلم الثورة الفرنسية بشكلها المثالي ، وقد فطر المغلوب على تقليد الغالب ، فلا بد ان يكون سارقا في أسوأ الاحوال لبعض اسرار تفوق الغرب سواء لتفوق بمهارة السارق او بسخاء المسروق ، لا فرق.
هكذا يريد ان يقول من اعتبر دخول نابليون بداية الأزمنة الحداثة في بلادنا ، اما من اعتبر فكر ابن خلدون هو الوعد الحقيقي ، فقد مثل عقلية مختلفة تماما ، وان لم تكن مناقضة لفكر الاول في كل شيء.
انها مقاربة عقلية تعتبر ان بذرة التغيير الحقيقي اقبال العربي على دراسة وضعه بعمق ، ماضيا وحاضرا ، واكتشاف نواحي القوة والضعف في فكره ومجتمعاته وموروثاته وتطلعاته ، واضعا حدا لكل ما ينافي عقله ومصالحه ، مبتكرا طريقه الخاص ، الذي وان شابه غيره في بعض النواحي ، الا انه يبقى طريق القوة الذاتية والنمو الذاتي.
الفارق بين المشهد البونابارتي الفرنسي وانجازاته في مصر ومشهد النمو الخلدوني هو الفارق بين شرق يفهم التقدم مجرد عملية تقليد للخارج وشرق جاد يعمل على ان يبدع تقدمه.
انه فارق بين صدمة الحضارة الحديثة وصحوة النمو الذاتي ، لا خيار فيه للمسلم والعربي غير المسلم الا ان ينحاز للثانية.
ومن يقرأ مجريات التاريخ العربي منذ قيام الاتصال بالغرب يجد ان عقلية الاعجاب بالغرب والاستسلام له ولقيمه قد أنشأت في احيان كثيرة اوضاعا غير متجذرة وغير قادرة على المنافسة في اقل تقدير ، وان نوع الغرب المجوف السطحي الذي انشأناه عن طريق التقليد والاتباع في اماكن من بلداننا لم يوقف بلادنا عن التردي ، لاننا اخذنا شكل الغرب وأشياءه ومنتجاته دون ان نأخذ سر قوته الاعمق وهو علمه وجديته في بناء ذاته وقدراته.
اما الطريق الآخر الخلدوني ، وما اقل ما اعتمدناه ، فهو الذي ابقى ويبقى بعض ما لنا من الشخصية والامل ، فحيث يسير الانسان العربي على طريق النمو الذاتي والتقدم العلمي واحترام النفس وروح الجماعة ، يعمق قدميه في الارض ويتمكن من الاحتفاظ بما له وتوجيه مسيرته الصاعدة مع الايام.
ان اجتماع الارادة والعقلانية هو في النهاية الذي يضمن للمجتمعات طريق التطور الصحيح وهو الذي يستطيع ان ينقل المجتمعات المسلمة والعربية من حال الى حال.