16 ربيعا .. بتول مرة أخرى
01-04-2010 07:43 PM
منذ ذلك الثاني من نيسان عام أربعة وتسعين وحتى الآن مياه كثرة جرت وأحداث كثيرة تعاقبت، تبدلت فيها الدنيا وتغيرت الأحوال ومحيت منها آثار وتحولت إلى اثر بعد عين.ولم تعد أكثر من ذكريات تسكن الروح والقلب.
إنها صروف الدهر التي تبلي الأجساد والأشياء، ولا تبقي إلا على الذكريات، حلوها ومرها، سعيدها وحزينها،يسترجع الإنسان ما يسعد منها ويبعد ما يحزن.
تعود بي الذكريات الى ذلك اليوم الربيعي الجميل من أيام نيسان قبل ستة عشر عاما حين استقبلت مولودتي الأولى "بتول" "بخربشات" قلم، اسلت فيها مشاعري وأفكاري حبرا على ورق، أملا وراجيا ومحذرا..آملا في غد مشرق، وراجيا رحمة الله ، ومحذرا من أيام تتقلب فيها القلوب والأبصار.. أملا أن يتبدل حالنا إلى الأفضل، وراجيا أن تكون ابنتي وجيلها ممن يغيرون ما عجزت أنا وجيلي عن تغييره.
الثاني من نيسان كان يوما سعيدا بحق، بل من اسعد أيام حياتي، كيف لا وقد وجدت بضعة مني تخرج إلى الدنيا بإذن ربها، تملاها صراخا وعويلا.. وتخيلت ذلك الصراخ تعبيرا عن تمرد في زمن كممت فيه الأفواه وخرست فيه الألسن ولاذ الجميع بصمت مريب، خوفا ورهبا وطمعا، خوفا من بطش، ورهبة من متسلط، أو طمعا بسلامة وغنيمة.
يومها كتبت لحبيبتي الصغيرة "بتول"، وهي في حجر أمها إنها اشراقة أمل تزهى بها الحياة، أمل أن تكون مختلفة ومثقفة وقوية وواثقة وحازمة.. حنونة رقيقة شفافة حيية ذات دين، خفيفة الدم والروح والوجدان، تغمرها العاطفة وتفيض على غيرها بحبها، وتجعل من الحب تروسا تتكسر عليها كل سهام الكراهية، وتتثلم على زرداتها كل نصال الحقد.
بعد كل هذه السنين التي كانت بعضها عجافا ومعظمها سمانا، تحقق بعض ما أملته فإذا بتول الصغيرة تكبر وتكبر أمام ناظري، أشعلت في قلبي نار المحبة الخالصة وبعد أن كبرت قليلا أشعلت النار في كتبي، حين وجدتها ذات مرة "على حين سهوة"، وهي تعبث بعود ثقاب نجحت بقدح شراره مستخدمة كتبي وقودا لنار حولتها إلى لعب ولهو وكأنها تصنع "نيروزها" الاحتفالي غير عابئة بشئ، وأنها تكتشف أصل الأشياء في الدنيا وهي النار التي لطالما أحرقتنا بالمعاناة والغضب والحروب او الفقر والفاقة والحرمان.. اكتشفت وحدها بداية الأشياء فأشعلت نارا ربما كانت هي ذاتها التي ألقت في قلبها محبة الكتاب بعد ذلك لتصبح قارئة ومثقفة من الطراز الأول على حداثة سنها.. وكأني بها على غرار أبيها إبراهيم عليه السلام حين قلب الله ناره بردا وسلاما .. فأي سلام فازت به بتول بعد ذلك.
تكبر بتول وتدخل المدرسة فيما 9 ملايين طفل عربي في عمر الزهور لا يستطيعون الذهاب إلى المدارس.. فيا عجبا يا بتول كيف تعجز امة تودع المليارات في بنوك الغرب عن توفير مقاعد لتدريس ملايين الأطفال العرب .. هم أقرانك يا بتول فاحملي همهم. وطالبي لهم بالمدارس والكتب والأقلام والمعلمين.
هل تعلمين يا بتول .. في فلسطين أطفال يحملون الحجارة في حقائبهم بدل الكتب والدفاتر .. يقاتلون وحدهم احتلالا يهوديا بغيضا شرسا عنيفا.
وفي الصومال يا بتول أطفال عرب حولناهم إلى قراصنة بإهمالنا وتقاعسنا وجبننا، فتركناهم يركبون الأمواج ليصدوا لصوص البحار عن أسماكهم.
وفي العراق يا بتول جيل كامل من الأطفال أضعناه ودمرناه وتركناه نهبا لزمن لا يرحم.
قاتلي يا بتول من اجلهم .. وأنا أعرفك مقاتلة لا يشق لها غبار ، لا تخشي شيئا فوالله ما الخوف إلا فكرة تسكن الإنسان، إذا أقصاها عاش شجاعا حياته كلها.
قبل ستة عشر عاما كنت الزهرة، والآن أنت وردة تفتحت، أصبحت أنثى تتهين على النساء، فاجعلي بتلات زهراتك تعبق وتنشر العطر على المحبين وحولي أشواكك إبرا في عيون المرجفين ..
كنت في الثاني من نيسان الماضي.. وصرت في الثاني من نيسان الحاضر ، فكوني أنت لا تكوني غيرك.. عزيزة كريمة الأصل والمنبت، رفيعة الحسب والنسب، عالية الهمة، ذليلة للمؤمنين والمؤمنات، ذات خلق وعلم وأدب، واخفضي جناح الذل من الرحمة لمن احبك، واغفري لمن أساءك، ولا تتخذي لئيما خدنا، ولا تنفري منك كريما، وانزلي الناس منازلهم، وكوني خفيضة الصوت، جزلة الكلام،
غضة حيية خفرة حصان صناع.واعلمي أن الإنسان أيام مجموعة إلى بعضها، ما ذهب منها هو عمر نقص، وما بقي منها فهو أمل يرتجى، فاجعلي يومك أحسن من امسك بطاعة الله، واعلمي أن الإنسان إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو لله.كمال قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم.
-------
بتول
سمير الحجاوي
الأفق 13-4-1994
الثاني من نيسان لم يكن يوما عاديا، بل كان ذا نكهة خاصة، فلقد فيه "بتول" حبيتي الصغيرة، ورأت نور الدنيا لأول مرة، ولدت باكية ككل الأطفال الذين يستقبلون الحياة بالصراخ، كانت تبكي وعشرات الأفكار تتقاذفني، من أكثر الآمال وردية إلى أعمق المخاوف السوداوية التي يرتعد لها قلبي وجناني.
جال في خاطري الفقر والفقراء وأطفال بلادي، وتذكرت أنني كتبت ذات مرة انه يوجد 300 ألف طفل يعانون من سوء التغذية وقلة العناية، واستعرضت في عجالة أوضاع الأطفال التي لا تسر، وتذكرت أنني قرأت في إحصائيات لا يسمح بنشرها أن 39% من الأسر الأردنية تعيش تحت خط الفقر، وان 9% منها تعيش تحت خط الفقر المدقع، جال هذا في خاطري وأنا اسمع صراخها ولم أرها بعد.
كم كانت محظوظة حبيبتي "بتول" إذ ولدت في مستشفى خاص، وما أدراك ما خاص: انه يعني "تشليح" فهو يشلحك ما تملك ومالا تملك، ويحصي عليك أنفاسك، لكن على الأقل توجد رعاية وعناية، وجال في خاطري أوضاع المستشفيات الحكومية التي لا تسر صديقا و لا تغيض عدوا، وتذكرت كيف طالب مدير مستشفى الزرقاء الحكومي بسجني بتهمة "التلفيق" ونشر معلومات "زائفة" وصور "مزورة"، تذكرت كيف هاج وماج عندما قرأ ما كتبت عن القطط التي تسرح وتمرح في قسم الولادة.. تذكرت كل هذا وحمدت الله أن ابنتي ولدت ولم تأكلها القطط.
بعد يومين من المكوث في هذا المستشفى العتيد، زودني المحاسب "بفاتورة" أحصوا فيها حتى الأنفاس التي تنفستها حبيبتي "بتول" من هواء المستشفى الخاص، فاتورة لم تغفل شيئا، فكل شيء في هذه الأمكنة له ثمن، وجال في خاطري التامين الصحي الشامل وما يدور حوله من جدل، ونظرت حولي وقرأت ما يكتبه بعض الذي يقبضون "الآلاف" لقاء ما يكتبون، فإذا بهم يهاجمون التامين الصحي للفقراء بحجة انه يرهق "خزينة الدولة" ويزيد العجز، غير آبهين بحياة الأطفال والأجيال القادمة الذين نترك لهم شرف "تحرير" فلسطين.
مقابل كل هذه المخاوف يشرق الأمل ويزهي على آفاق رحبة، فلكم أسعدني وأنا أرى ابنتي الحبيبة "بتول" في حجر أمها، تلك الدفقات الحنونة في صدري وقلبي.. وافترت شفتاي عن ابتسامة ساخرة، اسخر فيها من "العزيز" هنري كيسنجر الذي يطالب بتحديد نسلنا لأننا نشكل تهديدا للأمن القومي الأمريكي الإسرائيلي، وزادت سعادتي وأنا أتخيل "جولدا مائير" وهي تتلوى في قبرها جراء ولادة حبيبتي بتول .. الم تقل جولدا ذات يوم إنها لا تستطيع النوم عندما تعلم ان هناك طفلا عربيا يولد.. فلتفقع جولدا في قبرها وليمت كيسنجر من "القهر والغيظ"، فها هي حبيبتي "بتول" تولد رغم أنوفهم.
باستطاعة الدنيا كلها أن تسجل على قائمة الشرف معارضا جديدا للتسوية مع اليهود والتعايش معهم، وترضع كل يوم حليب الكراهية لهم من ثدي أمها، هذا المعارض الجديد لبؤة اسمها "بتول" تعلن منذ الآن أن لا تعايش مع قتلة أطفال فلسطين ومغتصبي أرضها.
للأمل اشراقات، أجملها على الإطلاق أن الحياة ستستمر حتى قيام الساعة بحلوها ومرها بإذن الله وفي النهاية لا يصح إلا الصحيح ولن ينتصر إلا الحق.
لقد صرت أبا للجميلة الصغيرة "بتول" وبت اشعر بعبء الحياة أكثر من ذي قبل، وخلت نفسي ادخل في مرحلة مبكرة من "الشيخوخة" حتى لكأنما قدوم هذه الصغيرة هو الحرف الأول من كلمة طويلة اسمها "ختيار".. ويبقى الأمل.
hijjawis@yahoo.com