هل جفّ الكلامُ العذبُ على شفاهنا، وتصحّرت آبار أرواحنا؟ وكم مرة في اليوم نقول لأحبائنا «أحبك»، ومتى كانت آخر مرة قدّمنا فيها وروداً لمن نحب؟
لا يعني ذلك أننا لا نتقن فن الحب، بل على العكس، إن فينا ينابيعَ فيّاضة بالحب والشغف، لكنها محبوسة ومخنوقة في قيعان كهوف غائرة في طبقات النفس.
محترفون نحن في إخفاء مشاعرنا، وبخلاء في التعبير عنها. نعتقل عواطفنا في سجن «ما يجب» و«ما لا يجب»، ونعتقد أن التقتير في الإفصاح عن المشاعر وردود الأفعال خيرُ ملاذ، وأفضل الحلول إلى السلامة، حتى قادنا بخلنا هذا إلى كبْت نفسي يتفجر في الوقت الخطأ، إذ لا نراه إلا إذا تعرّض مَن نحب إلى مرض أو نكسة، أو أصابته مصيبة، حينها تتدفق أنهار المشاعر، وربما يكون ذلك أحياناً بعد فوات الأوان.
حاول علماء نفس مشهورون مثل فرويد تشريح البخل، بصفة عامة، فرأوا أنه ينتسب إلى مرحلة بعيدة في حياة الإنسان منذ كان طفلاً، حيث يحاول الاحتفاظ بفضلاته في جسمه، عوضاً عن التخلص منها، لا سيما إذا كان تعرّض لتربية صارمة في مرحلة التنظيف والتدريب على استعمال المرحاض، ومع الوقت يشعر الطفل باللذة، لأنه حقق لنفسه الأمان، وخفّف من قلقه.
لكن خطورة هذا الأمر أنه يتعدى الاحتفاظ بالأمور المادية، إلى العواطف، وهنا يتجسد البخل في الإفصاح عن المشاعر، لظنٍّ عند من يفعل ذلك بأن هذا السلوك يُنجّيه من الانكشاف.
الكائن في هذه الحالة يعتصم بصمته، ويتحصّن في قلعته، فلا يُبدي إعجابه بالأشياء والبشر وكل ما حوله، كيلا تظهر حقيقته. إنه يوّد ألا يُعرف، فبالمعرفة يتعرّى، وهو لا يريد هذا المصير، مع أنه ليس بالضرورة أن يكون مصيراً بائساً، بل لعله يكون فرصة للانتماء إلى المجموعة البشرية المحيطة بالكائن، ومشاركتها أحوالها وتقلباتها النفسية بحلوها ومرّها.
بخلاء نحن في المشاعر. وربما يكون لتنشئتنا، في العالم العربي، أثر في ذلك، فالثقافة، عموماً، والذاكرة الجمعية، بشكل خاص، حاضّة على إخفاء المشاعر. يحبّ الرجل زوجته حباً جمّاً، لكنه لا يقول لها ذلك علانية. أفعاله تقول ذلك، وهذا يجري مع الآباء والأمهات والأشقاء والشقيقات والأحباء. إنها ثقافة تُخفي أكثر ما تفصح، ثقافة كتومة، حيّية، غامضة، وربما قلقة. ولعل هذا ما جعل الجاحظ يتندّر على هذه الثقافة، وينتقد ما ساد عصره من تعبيراتها.
ومن النوادر التي رواها الجاحظ، في كتابه النفيس «البخلاء»، وكشف فيه أسرار البخلاء وشخّص نفسياتهم بمهارة وبحس فكاهي بارع، أن رجلاً سأل أحد البخلاء: لمَ لا تدعوني إلى طعامك؟! فأجاب البخيل: لأنك جيد المضغ، سريع البلع، إذا أكلت لقمة هيّأت لأخرى. قال الرجل: يا أخي أتريد إذا كنتُ عندك أن أصلي ركعتين بعد كل لقمتين؟!
دأبتُ، منذ بدأت التدريس الجامعي، على تشجيع طلبتي على كتابة المذكرات اليومية التي نستهلّ بها بداية كل محاضرة، كجزء مما أسمّيه «اللياقة المعرفية» وهي ضرورية جداً للصحفي، لأنني أعتقد جازماً أن مهارة الصحفي الحقيقي تتجلى في معرفته وثقافته وسلامة لغته، وحُسن تعبيره، وطلاقة لسانه.
وفي مرّات كثيرة يكتب طلبة عن أمهاتهم وآبائهم كلاماً عذباً يتشقق له قلبُ الصخر، فأسألهم: هل أخبرتم المقصود بالكتابة بمشاعركم هذه، فتكون الإجابة على الأغلب: لا. وعندما أسأل عن السبب يكون الجواب: الخجل. وذات مرة أجابت طالبة: إذا أرسلت هذه المذكرات إلى أمي، عبر تسجيل صوتي بالـ«واتس أب»، فلن تصدّقني، لأننا بالكاد نتحدث مع بعضنا حين نجتمع، وهي تعتقد أنني بلا مشاعر أصلاً!
كنت أرجو الطلبة أن يرسلوا هذه المذكرات صوتياً إلى آبائهم وأمهاتهم، أثناء المحاضرة، كي أضمن أن الطلب قد تحقق، ولكم أن تتخيلوا مقدار الفرحة التي تغمر قلب المستقبِل الذي يردّ برسالة مغرورقة بالدمع والأنفاس المتقطعة.
الروحُ تتوق للكلام العذب، فحرّروا مشاعرَكم، وألقوا التحية، دائماً، على الجمال والحب!
(البيان)