لأن حبال الكذب أكثر من واهنة، وأقصر من قصيرة، فإنها لا تأخذنا بعيدا قبل أن تتقطع عقب شدة خفيفة من أصابع الحقيقة، ولهذا فإن الفرنسيين أيضاً يسمون كذبة الأول من نيسان (بالسمكة الصغيرة)!!، فليس أسهل من أن تسقط هذه السمكة/الكذبة في أول شبكة تلوح في لجة الماء، أو ما أسرع ما تتعلق بأول سنارة تتأرجح بخيط!!.
ولكن بين ملوحة الحقيقة وحلاوة الكذب قد يتساوى رش الموت بالسكر بشعار (الكذب ملح الرجال)!!، فكلاهما يتغاضى ويتعامى عن حقائق كان الأولى أن نواجهها ونعالجها، ولكن هذا العالم الغريب لا يحب أن يسمي الأشياء باسمائها الحقيقية، ويأبى إلا أن يلون أكاذيبه بكل الألوان، من أسود وأحمر وأبيض. لكن سيبقى أشد الألوان غموضاً هو الكذب الرمادي: أو الحقيقة المواربة. فتباً لأنصاف الحقائق وأنصاف الأكاذيب!!.
وقريبا من ملح الرجال وكذبهم، ففي أيام الدراسة الجامعية كنا نعيش في شقة، وذات يوم كان الطبيخ برقبتي، فضربت المحاضرة الأخيرة، وبسرعة إلى البيت، لأطلقت العنان لصوت فيروز، قبل أن أهرع للمطبخ وتقشير البصل ودق الثوم، ورحت بلذة عارمة أتفنن بطبخة من بنات أفكاري، فانا أعرف أن الطبيخ يكون لذيذاً مهما كان مع الجوع، وعما قليل سيصل الشباب مهترئين جوعاً، ولكن من فرط اندماجي بفيروز وجسر اللوزية، اكتشفت أنني ملحت طبختي خمس مرات أو أكثر!!.
وهنا وقعت بفخ لم أحسب حسابه، فالشباب سيسامحونني على هذه الطبخة العفشيكية، ولكنهم لا محالة سيدلقونها على رأسي، لأنها أكثر زعوقة من البحر الميت. ولهذا كان علي أن أتدارك أمري وأستخدم حيلة علمية صغيرة تعلمتها من نبش الكتب، فقشرت بسرعة أكثر من عشرة حبات بطاطا، ورميتها بالطنجرة، فالبطاطا ستخلص طبختي من ملوحتها الزائدة بلاء عناء.
تلذذ أصدقائي بطبختي التي بالكاد كان ملحها ظاهراً، ولأن من عادتي أن أسمي كل طبخة أقترفها بحقهم باسم فني، قلت لهم هذه الطبخة سأسميها (بطاطا مقشرة)، وحين اعترضوا بأنهم لم يروا بطاطا في الطبخة، قلت لهم: اللي بدري بدري ولما بدري بقول: وين البطاطا!!.
فإذا كانت حبات البطاطا المقشرة الصغيرة، التي أقصيتها من الطنجرة بعد أن أدت مهمتها، قد أنقذتني من شر الملوحة الزائدة. فكم سيحتاج هذا العالم من البطاطا المقشرة، كي يتخفف حساؤه من ملح أكاذيبه العامرة؟؟!!. وكل نيسان ونحن بصدق نحيا ونحيا!!.
ramzi972@hotmail.com