بَعْثرة:
تُراقبُه غارقًا في شُرُفاتٍ افتراضيَّة: ارحمْ ضَعفنا وكَسرنا وعاطفتنا. نَظرَ شَزْرًا، وانشغلَ برسالةٍ...، هي أهمُّ من هوامشِ الحياةِ التي فاهتْ بها زوجُه الحسناءُ، إلّا عن روحِه المُبعثرة، وفاتَه بَريقٌ يُضيء به عَتَماتِ قلبه. يُسمَع صوتُ واعٍ أجشُّ من زاويةٍ في البيت: لكنَّ الحبيبَ حَنَّ؛ إذِ انقطعَ الوحيُ شهرًا، وانشغلَ الناسُ بحديثٍ هو من صلبِ الدَّعوةِ وبقائها وثباتها. تَبعثرَ أكثرَ، وضَلَّت الرّسالةُ طريقَها...!
قوارير:
لا يخرجُ -على عادته- من مكتبه في الجامعة إلّا وقد أنجزَ كلَّ أعماله الوظيفيَّة، وجزءًا من أعماله العلميَّة، هذا ديدنُه منذ وطئتْ قدماه فيها. أستاذٌ مربوع، فيه مَلاحةُ وحُسن، تَصحَّر رأسُه إلّا قليلًا، يَعْرف جِدَّه القاصي والدّاني. وبينما يقلّبُ أوراقَه في مَكتبه المُشرعِ بابُه في أوَّل الدِّهليز، إذا بحركةٍ تقتربُ من بعيد، فيها نَغمةٌ هادئة لكنّها لافتة، وكلَّما اقتربتْ زادت النَّغمة، تَعمَّد صاحبُها أنْ يُوازنَ صوتَها على بلاط الدِّهليز بالتّمايلِ الرَّشيقِ يمنةً ويسرةً... نهضَ وقد عبسَ، ونظرَ من الباب، ليعاينَ فتاةً رَبْعةً، مُكتنزةً، "ترائبها مَصقولةٌ كالسَّجنجلِ"، تَسرُّ النّاظرين. اقتربت، نهرَها؛ فارتجفتْ برشاقةٍ وخُبث، وتلطَّفته: رفقًا بالقواريرِ دكتور...، فأغاظته بِغَنجها، وقال: نَعَم، بالقوارير؛ لا البراميل!
كيمياء:
يُحبُّ الخلوةَ في مَكتبه، يعاينُ حركةَ العالَمِ في جهازه، يَغشاه سُرور، ينتابه حزن، يُغرّدُ لكلّ سانحة، مَفطور على حبِّ الخير؛ فقد ألجأها المَخاضُ يومَ وُلدَ إلى جذع زيتونةٍ أيام تشرين، فجاء إلى الدّنيا بدُهن الزّيتون، وغبارُ النَّقعِ "كيمياءُ عطورٍ" يَتضوَّعُ منها "بين الحَنايا وبين الضّلوعِ وفوقَ الجبين"- تَذكَّر اللحظةَ قصَّتها له من قبل، غابَ ساهمًا، قرأ المَواجعَ...، لَحَظتْ شُرودَه، أقلقَها غيابُه، أحضرتْ كأسَ ليمون...، فقرأتْ بعبراتِه: في عليّين!
اعتذار:
نَعى النَّاعي...، فُلانَ بنَ فلان. اجتمعتِ المدينةُ ومَن حولَها يُلقونَ نظرةَ الوداعِ. ذَهبوا به ليدفنوه، أذِنَ القبرُ لفلانٍ، وللألقابِ اعتذر!
مِحرقة:
دَخل ذات يومٍ على الطُّلابِ في أحدِ الفُصولِ في الجامعة، أستاذٌ وَعِرٌ، مَهيبٌ، جادٌّ، مقطّبُ الحاجبينِ، إلّا من ابتسامةٍ في الخريف، له جاهٌ في العِلم، وسِطةٌ بين العلماء..، قال وقد ذَرَعَ الفصلَ غيرَ مرَّة، ويَداه خلفَ ظهره كأنَّه مَخْفور: وَصلتني من أطْرافِكم أوراقٌ (وَساطات للنَّجاح)، أعلمُ أنّ منها من أناسٍ لهم في الدّولة مراكزُ متنفّذة، جاهٌ وسَطوة، ومنها من أصدقاءَ ومقرَّبين...، فكَّرت فيها وقدَّرت، قدَّمتُ وأخَّرت، أسررتُ وأعلنت...، وأنا بين شَدّ العقلِ وإرخاءِ القلبِ، لم أجدْ لها مكانًا (وكان الفصلُ شتاءً) سوى المِحْرقة. هَمسَ طالبٌ مشاكسٌ في أذنِ زميلِه الجادّ: قدوتُك احترقَ.
أقم الصّلاة:
صَعِد المِنبرَ، وهواجسُ الحَظْر تتناوشُه، وهو المرغوبُ فيه وإنْ طالت خُطبُه. حيَّا المُصلِّين الذين يُراقبون دقَّاتِ قلوبِهم بحذَر، ويَنْظرون إلى بَعْضهم أنَّ شيخنَا سَيطيلُ على عادته، والوقتُ يَضيق. تَنحنحَ...، حمدَ فأثنى فصلَّى فقالَ: إنَّ صلاةَ الجمعةِ اليومَ استجابةٌ لنبضِكم وأصواتِكم. أقولُ قولي هذا، وأقمِ الصَّلاة.