بدأ الاهتمام البريطاني بمشاريع الاستيطان اليهودي لدى قيام الحرب العالمية الأولى يتخذ اتجاها جديدا يتسم بطابع اكثر جدية عما كان عليه في السابق ، ففي يناير ١٩١٥ بعث صموئيل Herbert Samuel ( وكان احد الوزراء في حكومة اسكويث Asquith وأول يهودي يدخل الحكومة البريطانية ) مذكرة الى رئيس الوزراء اسكويث اقترح فيها إقامة محمية بريطانية في فلسطين يسمح لليهود بالهجرة اليها لإقامة "مركز ثقافي وروحي لليهودية"، على ان يتمتع اليهود في فلسطين بحكم ذاتي يتطور فيما بعد ليصبح دولة يهودية موالية لبريطانيا. غير ان اقتراح صموئيل لم يحدث أي انطباع إيجابي لدى اسكويث، اذ أبدى تشككه منذ البداية حول جدوى مشاريع التوطين اليهودية وكان اللورد غراي، وزير الخارجية، ولويدجورج، وزير الذخائر، هما الوزيران الوحيدان اللذان وافقا على اقتراح صموئيل الداعي الى الربط بين سيطرة بريطانيا على فلسطين وبين دعمها للمشاريع الصهيونية. وقد اتهمهما اسكويث بالنفاق والازدواجية في المواقف ولا سيما تجاه المسألة اليهودية.
وقد لعبت الصحافة البريطانية وخاصة صحيفة المانشيستر غارديان دورا مهما في الدعوة للاستيطان اليهودي في فلسطين وتبيان فوائده الاستراتيجية والسياسية بالنسبة لبريطانيا. فقد قام سايدبوثام Sidebotham الخبير العسكري في المانشيستر غارديان بدور كبير في هذا المضمار، وكانت مجمل أفكاره تدور حول إظهار الصلة الوثيقة بين فكرة الدولة اليهودية في فلسطيبن ومصالح الإمبراطورية البريطانية وكان يردد في مقالاته باستمرار على "ان اليهود هم الفئة الوحيدة المهياة لاستعمار فلسطين فهم - دون غيرهم - باستطاعتهم ان يقيموا شرقي البحر الأبيض المتوسط نفوذا حديدا مرتبطا ببريطانيا وسيشكلون درعًا لحماية مصالحنا في الشرق ووسيطا بيننا وبينه ..." ( نقلًا عن : خيرية قاسمية ، النشاط الصهيوني في الشرق العربي وصداه، ص ٢٩٦ ).
وقد قامت المنظمة الصهيونية من ناحيتها، وعن طريق احد زعمائها وهو سوكولوف بتقديم مذكرة الى وزارة الخارجية البريطانية في ابريل عام ١٩١٦ مطالبا فيها ان تتولى بريطانيا إقامة دولة يهودية في فلسطين نظرا لما ستحققه هذه الدولة من خدمات جليلة للمصالح البريطانية، وكان مما ركزت عليه ان فلسطين ستشكل في المستقبل امتدادا لقوة بريطانيا ومثبتة لمركزها على شواطئ البحر المتوسط.
وسينشط اليهود هناك في مجال التجارة والزراعة وإقامة علاقات تجارية واقتصادية مختلفة مع شعوب المنطقة مما يعود بالمكسب والفوائد على بريطانيا قبل غيرها. وتنتقل المذكرة الى نقطة هامة حين تستطرد في تبرير وجود الدولة اليهودية بقولها : ان إنشاء كومنولث يهودي في فلسطين تحت حماية إنجلترا سيقيم جدارا فاصلا بين غرب اسيا وعرب الشمال الأفريقي ... وهذا سيكون فيه خدمة كبرى لدولة تضم في حوزتها عربًا في الجانبين ... كما انه سيكون لليهود فضل كبير في ادخال الحضارة الأوروبية، مما سيودي الى توعية شعوب المنطقة وتحسين أوضاعها لما تقتضيه المصالح البريطانية ( أمين. محمود ، مشاريع الاستيطان اليهودي في مرحلة التكوين، ص ٢٠٥ ) . وسرعان ما بدأت هذه الأصوات المؤيدة لإقامة دولة يهودية في فلسطين تجد لها آذانًا صاغية حينما تولى لويد جورج رئاسة الوزارة في ديسمبر غام ١٩١٦ وأصبح بلفور وزيرًا للخارجية.
لقد برزت خلال هذه الفترة صعوبات عسكرية بالنسبة للحلفاء في الجبهة الغربية ، ولذا فقد رأت ان الوسيلة الوحيدة لإيجاد انفراج عسكري في هذه الجبهة هو تصعيد الحرب في منطقة الشرق العربي ضد الأتراك العثمانيين حيث ساهمت القوات العربية فيها مساهمة كبيرة كان لها تاثير كبير على مجرى الحرب . وأصبح حينها "احتلال فلسطين" بالنسبة للويد جورج "ضرورة ملحة وعاجلة لا تحتمل التأخير" ( Leonard Stein , The Balfour Declaration , p. 145 ) . وكانت بريطانيا قد نجحت بمقتضى اتفاقية سايكس - بيكو من ابعاد روسيا عن فلسطين وباقي الشرق العربي بالتسليم لها بأطماعها في الدردنيل والبسفور والأجزاء الشمالية من الدولة العثمانية . أما بالنسبة لفرنسا فان بريطانيا فشلت في اخراج فلسطين من داىرة الأطماع الفرنسية ، فبالإضافة الى حصول فرنسا على منطقة الجليل الأعلى من فلسطين مقابل منح بريطانيا ميناىي حيفا وعكا، فان الأجزاء الباقية من فلسطين اتفق على وضعها تحت إدارة دولية يكون لفرنسا دور أساسي في تحديد ملامحها".
لقد كانت فرنسا منذ مطلع الحرب العالمية الأولى تسعى جاهدة للحصول على بلاد الشام باكملها بما فيها فلسطين، وقد أعلن وزير خارجيتها عام ١٩١٤ بان فرنسا تعتبر البلاد السورية كلها من الحدود التركية الى الحدود المصرية داىرة نفوذ فرنسية . ودلالة التصريح ان فرنسا كانت تريد اقتسام المشرق العربي بينها وبين بريطانيا ، بحيث تحصل على القسم الغربي منه وهو بلاد الشام مقابل حصول بريطانيا على القسم الشرقي وهو العراق .
فلا عجب إذا كانت مخاوف لويد جورج في فلسطين والمشرق العربي مصدرها ليس التحالف الألماني العثماني بقدر ما هو الأطماع الفرنسية. فقد كانت استراتيجية السياسة البريطانية تقوم على مبدأ عدم السماح لأية قوة أخرى باحتلال فلسطين وتهديد النفوذ البريطاني في مصر وقناة السويس . ولكن ما ان تسلم لويد جورج مقاليد الحكم حتى اوضح لرجال حكومته ان "بريطانيا ستحتل فلسطين وتستقر فيها ، وما على فرنسا وغيرها من الدول الا الانصياع لهذا الواقع وقبوله"( Stein , ibid ).
وتمهيدا لتحقيق هدفه في احتلال فلسطين، لجأ لويد جورج الى تعزيز صلته بالحركة الصهيونية. فقد كان يدرك مدى النفوذ الذي يتمتع به اليهود في فرنسا ، وقدرتهم على التأثير في السياسة الفرنسية. اضافة الى إمكاناتهم المالية الهائلة المتغلغلة في الاقتصاد الفرنسي.
كما ان حكام فرنسا الليبراليين كانوا يدينون لليهود بانتصارهم الكاسح على قوى اليمين المحافظة في أعقاب فضيحة دريفوس. وقد استغل الليبراليون براءة دريفوس من التهم التي سبق ان وجهتها اليه القوى اليمينية المحافظة التي استغلت براءة دريفوس للنيل من سمعة الليبراليين بحجة انهم كانوا متعاطفين مع اليهود ومخططاتهم التآمرية (Elie Kedouri , England and the Middle East , p. 51). ولدى كشف بطلان وزيف التهمة التي وجهت لدريفوس عملت وسائل الاعلام الليبرالية الفرنسية جاهدة على تأليب الرأي العام على القوى اليمينية المحافظة واستقطاب المزيد من التعاطف مع "المعاناة اليهودية" لصالح اليهود الفرنسيين. كما ادى ذلك الى تعزيز قوة الليبراليين ونجاحهم في استعادة السيطرة على السلطتين العسكرية والدينية، وتمكنوا من فصل الكنيسة عن الدولة وأصبحوا بالتالي هم القوة المتنفذة في فرنسا. ولا شك ان انتصار الليبراليين افاد اليهود ايما فائدة، بحيث اصبحوا بمكانة تسهل عليهم ممارسة أي تاثير يرونه في صالحهم على قرارات الحكومة الليبرالية الفرنسية . فلا غرابة إذن إذا وجد لويد جورج ان بلاده ستضمن عن طريق تبني إنشاء كيان سياسي يهودي في فلسطين ولاء الحركة الصهيونية واستعدادها لتحريك يهود فرنسا بما لديهم من امكانات وقوة للضغط على الحكومة الفرنسية كي تتخلى عن مطامعها في فلسطين.
ويشير لويد جورج الى ان احد العوامل الأخرى التي جعلته يتبنى مثل هذا الكيان السياسي اليهودي في فلسطين، هو تخوف حكومته من المساعي الجدية التي كانت تبذلها الحكومة الألمانية منذ أواخر القرن التاسع عشر لكسب ثقة وتأييد الحركة الصهيونية عن طريق الضغط على الدولة العثمانية لاصدار وعد يحقق رغبات اليهود في فلسطين ويسهل استيطانهم فيها في ظل السياسة العثمانية وتحت الحماية الألمانية ( اسعد رزوق ، اسراًىيل الكبرى ، ص ٢٣٣ ). ومما زاد من تخوف بريطانيا قيام ألمانيا بنشاط واسع في فلسطين، اذ انفقت الكثير من الأموال هناك سعيا وراء زيادة نفوذها، وقامت بتأسيس مصرف وعدد من المستعمرات الزراعية والمدارس والمستشفيات. وخشيت بريطانيا في حالة التزامها بتدويل فلسطين ان يستمر التغلغل الألماني في هذه المنطقة الحساسة مما يهدد مصالحها الرئيسة في مصر وقناة السويس . لذا كان لا بد من العمل على هدم الجسور نهائيًا بين الحركة الصهيونية والحكومة الألمانية.
وبالرغم مما قيل عن مثاليات السياسة الأمريكية في هذه الفترة، فإن الولايات المتحدة الأمريكية بدأت عشية الحرب العالمية الأولى تحدد مصالحها البترولية في الشرق العربي. فبالنسبة لفلسطين حصلت الولايات المتحدة عام ١٩١٤ على سبعة امتيازات في تصنيع البترول في منطقة النقب. وأخذت امريكا تلعب دورا بارزا في المنافسة العالمية من اجل البترول ومن اجل بترول العراق بشكل خاص . ولذا فان مستقبل الشرق العربي يشغل حيزًا هامًا في مجال السياسة الخارجية الأمريكية . وكانت فكرة الانتداب فكرة مقبولة لدى الكثير من الساسة الأمريكيين ، مما سبب رد فعل حاد بالنسبة لبريطانيا . وقد أشار لويد جورج الى ذلك بقوله : ان وجود الأمريكيين في فلسطين لن يكون ذا نفع او فاىدة بالنسبة لسياستنا في مصر ، بل بالعكس فانه سيضع أمامنا العشرات من العثرات والعراقيل
( David Loyd Gearge , The Truth about the Peace Treaties , p. 307 ) . وفي ضوء ذلك برزت أهمية الحركة الصهيونية بالنسبة لبريطانيا ليس في قدرتها على جر امريكا للحرب الى جانب الحلفاء فحسب، وإنما أيضا للضغط عليها لكي تتخلى عن أية مطامع لها في مد نفوذها على فلسطين.
ومن ناحية أخرى، وجدت بريطانيا في اليهود الروس عنصر رهان هام جدا في أعقاب نجاح الثورة في روسيا في فبراير عام ١٩١٧؛ وتولي الحكومة المؤقتة زمام السلطة. لقد ادركت بريطانيا ان بإمكان اليهود الروس القيام بدور رئيسي في التأثير على تطور الأحداث الداخلية في روسيا. وكان في تصور لويد جورج ان جميع اليهود الروس متدرجون تحت لواء الصهيونية وان بإمكانهم عرقلة المحاولات البلشفية للوصول الى الحكم. وعلى صعيد اخر، كانت الخشية واضحة في الأوساط البريطانية من تسلم البلاشفة الحكم بعد ان أعلنوا معارضتهم الشديدة للصراع الدموي ورغبتهم الأكيدة في الانسحاب من الحرب. والواقع ان السذاجة كانت واضحة لدى الذين تصوروا ان اليهود الروس بحوزتهم المفتاح السحري لانتصار البلاشفة بزعامة لينين او الليبراليين بزعامة كيرينسكي، أي بعبارة أخرى الانسحاب من الحرب او الاستمرارفيها . لقد تصورت بريطانيا ان إصدار وعد كوعد بلفور يحقق لها مكاسب حقيقية على الصعيد الروسي ( Jon Kimche, The Great Powers and the Balfour Declaration , p. 45). فقامت لدى إصداره بنشره بمختلف اللغات التي كان يتحدث فيها اليهود، وقامت بتوزيعه باقصى سرعة على شتى التجمعات اليهودية وخاصة في روسيا، حيث كانت الطائرات البريطانية تقوم باسقاط منشورات متضمنة نص الوعد على مراكز تلك التجمعات اليهودية. وسارع الزعماء الصهاينة بإرسال البرقيات لزملائهم الموجودين في روسيا لبذل أقصى جهودهم من اجل خلق موقف يهودي موحد في تأييده ودعمه لبريطانيا.
وهكذا ازداد لويد جورج وباقي الساسة البريطانيين اقتناعا بان إصدار وعد رسمي لليهود بإنشاء كيان سياسي لهم في فلسطين يحقق لبريطانيا فوائد جمة. وبالنسبة لفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة وروسيا ، فان باستطاعة الحركة الصهيونية التكفل بها جميعا بممارسة الضغوط عليها لتنتزع منها تأييدها لمثل هذا الوعد البريطاني. وحينما يتم الحصول على مثل هذا التأييد ، فانه يسهل على بريطانيا بعد احتلالها فلسطين وضمانها ولاء الحركة الصهيونية، ان تستأثر دون غيرها من الدول الأخرى بفلسطين لتصبح منطقة نفوذ تابعة لها.
وبالإضافة الى كل ما سبق ، فان الساسة البريطانيين كانوا يرون في إنشاء كيان يهودي سياسي في فلسطين توطيدًا لمصالحهم في الشرق العربي ، وذلك من خلال استخدام هذا الكيان لمواجهة حركة التحرر القومي العربي التي أخذت تنمو في هذه الفترة نموا كبيرا وتتحول شيئا فشيىا الى حركة شعبية جماهيرية خاصة في سوريا والعراق . فكان إنشاء مثل هذا الكيان بمثابة اسفين يدق في قلب المشرق العربي لشل هذه الحركة تمهيدا لتمزيقها وتفتيتها اضافة الى فصلها عن مصر وباقي شعوب شمال إفريقيا .
أما بالنسبة لعرب فلسطين فقد دعا عدد من الساسة الإنجليز الى ترحيلهم الى المناطق الممتدة شرقي نهر الأردن وجنوبه. فالسير إليك كيركبرايد الذي عمل مسؤولا في فلسطين وشرقي الأردن فترة من الزمن، أشار في مذكراته الى ان الأراضي الواقعة الى الشرق من نهر الأردن كان مخططا لها ان تقوم بدور ارض احتياطية تستخدم في اعادة توطين العرب حالما يصبح الوطن القومي لليهود أمرًا واقعًا ( Alec S Kirkibride , A Creackle of Thorns , p. 19 ). كما صرح السياسي البريطاني ذو الميول الصهيونية ، اللورد بوثبي ، لإحدى الصحف اليهودية بانه على قناعة بان نقل السكان العرب خارج فلسطين امر مطروح لدى الصهاينة والإنجليز.
ومن الجدير بالذكر ان الضفة الشرقية لنهر الأردن كانت محط اطماع الصهاينة منذ مطلع القرن الماضي. وقد تزايدت حدة هذه الأطماع بعد تسرب تقارير سرية لخبراء امريكيين وبريطانيين ممن ساهموا في أعمال صندوق استكشاف فلسطين البريطاني والجمعية الأمريكية لاستكشاف فلسطين. وقد تضمنت بعض هذه التقارير المنشورة الى وجود النفط في الضفة الشرقية اضافة الى وجود كميات كبيرة من الثروات الدفينة في اعماق البحر الميت ومنطقة الاغوار. ولذا فان تأسيس إمارة شرق الأردن عام ١٩٢١ جاء مخيبا للآمال الصهيونية التي كانت تسعى جاهدة لبسط نفوذها على هذه المنطقة.
أخذت الأحداث في النصف الثاني من عام ١٩١٧ تتوالى بسرعة ففي العشرين من شهر اكتوبر اقتحمت القوات البريطانية حدود فلسطين الجنوبية بهجوم على غزة اتبعته بهجوم اخر على منطقة بئر السبع، وفي التاسع من ديسمبر دخلت القوات البريطانية مدينة القدس لتمهد الطريق بعد يومين لدخول الجنرال اللينبي قائد القوات البريطانية العاصمة الفلسطينية. وفي الوقت الذي كانت فيه القوات البريطانية تقتحم فلسطين، كانت المفاوضات قائمة على قدم وساق بين الساسة البريطانيين وزعماء الحركة الصهيونية حيث تمخضت في الثاني من نوفمبر من نفس العام عن صدور ما يسمى بوعد او تصريح بلفور نسبة الى جيمس أرثر بلفور وزير خارجية بريطانيا آنذاك . وقد جاء هذا الوعد على شكل رسالة وجهها بلفور الى اللورد روتشيلد الزعيم الصهيوني الكبير في بريطانيا : يسرني جدا ان أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على اماني اليهود الصهيونية ، وقد عرض على الحكومة وأقرته : ان حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف والرضا الى إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين ، وستبذل جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية ، على ان يفهم جليًا انه لن يؤتى بعمل من شانه ان يضر الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الان في فلسطين ، ولا الحقوق او. الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى، وانهى بلفور رسالته لروتشيلد بقوله : أكون ممتنًا لو أبلغتم هذا التصريح الى الاتحاد الفدرالي الصهيوني ( Sokolow, Vol 11 ,p).
وهكذا جاء وعد بلفور ليكشف بكل وضوح عمق الصلة وحقيقة التحالف بين الإمبريالية البريطانية والحركة الصهيونية وذلك لخدمة أهدافهما ومصالحهما المشتركة. ومما يجدر الإشارة اليه في هذا الصدد ، ان كبار المتحمسين للصهيونية من الساسة البريطانيين كانوا يتخذون من هذا الحماس وسيلة لخدمة مآرب الإمبراطورية التي كانوا في صدد بنائها وتثبيت دعائمها. فبلفور الذي كان يبدي عطفًا شديدًا على الحركة الصهيونية عام ١٩١٧ هو نفسه الذي اصدر عام ١٩٠٥ حينما كان رئيسا للوزراء قانون الهجرة الذي حدد بمقتضاه هجرات يهود أوروبا الشرقية الى بريطانيا مبررا ذلك بالخوف من الأخطار والشرور التي بدأت تتعرض لها بريطانيا من المهاجرين الذين كانوا في غالبيتهم من اليهود ( Shtein , p. 143 ) . وحتى لويد جورج نفسه لم يكن يخفي قلقه من تزايد نفوذ اليهود في بريطانيا . ولدى مناقشته مشروع يوغندا في مجلس العموم البريطاني عام ١٩٠٤ ، علق لويد جورج على تهجير عدد من اليهود اليها بقوله ان العالم يحوي عددا كافيا من اليهود بحيث يستطيع الاستغناء عن كثير منهم ليذهبوا الى يوغندة ( Richard Meinertzhagen, Middle East Diary 1917-1956 p. 17 ). أما ريتشارد ماينرتزهاجن الذي شغل منصب رئيس دائرة فلسطين في وزارة الخارجية البريطانية والذي عرف عنه حماسه الشديد لمشاريع الصهيونية في فلسطين قال في مذكراته إذا ما تزايد نفوذ اليهود في إنجلترا في مجالات الحرف والتجارة والجامعات والمصارف ، فان علينا ، نحن الإنجليز، ان نقاوم هذا النفوذ بمنتهى القوة ( ibid ) .
وفي الوقت الذي يتضح فيه ان مصالح بريطانيا دفعت ساستها لاتخاذ مواقف مؤيدة للحركة الصهيونية نجدها من ناحية أخرى تدفع هؤلاء الساسة لاتخاذ مواقف معادية للحقوق العربية القومية . فالعرب الذين كانوا يشكلون عام ١٩١٧ ما لا يقل عن ٩١٪ من سكان فلسطين أشير اليهم في وعد بلفور بمجرد الطوائف غير اليهودية المقيمة الان في فلسطين والحقوق القومية والسياسية استعيض عنها بالحقوق المدنية والدينية. أما الأقليات اليهودية المنتشرة في دول العالم فقد أشير صراحة الى الحقوق او الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى، وذلك في معرض طمأنة اليهود الذين كانوا يتمتعون بمراكز متميزة ًوذلك في معرض طمأنة اليهود الذين كانوا يتمتعون بمراكز متميزة في أماكن سكناهم بانهم لن يضطروا لمغادرة هذه الأماكن دون رغبتهم .
وقد ساهمت عصبة الأمم بدورها فيما بعد بإعطاء وعد بلفور شرعية دولية من خلال صك الانتداب الذي تضمن اعترافا بالمنظمة الصهيونية هيئة سياسية ذات شخصية اعتبارية قانونية تمثل اليهود كأمة تسعى الى إنشاء وطن قومي لها في ظل الانتداب، ومعترفا أيضا بحق اليهود التاريخي في فلسطين . وقد تضمن صك الانتداب في مقدمته النص الكامل لوعد بلفور ومصادقة عصبة الأمم على الانتداب البريطاني الذي يهدف الى تهيئة فلسطين لتصبح وطنا قوميا لليهود استنادا الى الصلة التاريخية التي تربط الشعب اليهودي بفلسطين.
وهكذا تلقى العالم العربي وعد بلفور ليكون واحدًا من مسلسلات الظلم والخديعة والمناورات المعادية لاماني وتطلعات شعوبه في انتزاع حقوقها الطبيعية في الحرية والاستقلال . ومهما طرحت بريطانيا من حجج ومبررات فانها بلا شك تتحمل المسؤولية الكبرى في تجزىة الوطن العربي وتثبيت اقدام الاستعمار الصهيوني في فلسطين وتحويلها الى ثكنة استيطانية لتكون قاعدة للعدوان على العالم العربي بهدف الهيمنة عليه وإبقائه مشتتا ومجزءا لا مجال لديه لتحقيق تطلعاته المشروعة في التحرر والنمو والتقدم .