لا أظن أن الشعوب في آسيا أو أوروبا تغنّي للمزروعات وتدندن للفواكه والخضار كما نغني وندندن نحن. أغنية أو طقطوقة الروزانة «يا رايحين على حلب حبي معاكم راح… يا محملين العنب فوق العنب تفاح» اكتسبت شهرة كبيرة وأصبحت على ألسنة الجميع محترفين وهواة ولا يكاد يخلو مجلس أو سهرة طربية من دندة لكلماتها. في القرى والأرياف يغنون لزر البندورة ولدالية العنب يطلبون منها أن تتلولح عرضا وطولا. إضافة إلى تدليع النعنع ووصفه بالأخضر كما هو طبعا تغنى أحد مطربينا به بصيغة جديدة بأغنية حصلت على رواج واسع «هذا النعنع نعنعنا».
لا أعرف نظرية تفسّر سبب الشغف والانشغال العربي بالمنتجات الزراعية والابتهاج بها. اللبنانيون والفلسطينيون أكثر انشغالا من الشعوب العربية الأخرى، يليهم نحن وإخوتنا السوريون في إشارة إلى أن الخصب والزراعة كانا لصيقين في المناطق الأقرب إلى المتوسط منها إلى المناطق التي توغلت فيها الصحاري وعمّها الجدب.
في البوادي العربية شعر وغزل لكنه يتمحور حول الناقة والفرس والخزامى والدفلى وكثير من النباتات التي لا تدخل في صناعة الطعام ولا يجري تناولها. الكثير من الموضوعات والموجودات والكائنات يجري استخدامها كرموز طوطمية للفخار والشجاعة والطيب والشدة.
من بين كل الأحداث والظواهر التي تحدث في محيطنا يكتسب المطر أهمية خاصة فهو الخصب والتعبير عن علاقة اليابسة بالبحر وهو الذي يبعث الحياة ويجدد وجه المكان. في هذا الجزء من العالم حيث تنقسم المزروعات إلى بعلية ومروية ينظر الناس إلى السماء والمطر على أنهما الأمل والفرج والخلاص. في كل قرية وبلدة وسهل وفي كل واد توجد بئر لجمع المياه أو عين ماء تتغذى من الأرض أو غدير ينتظر أن تملاؤه السحب. وهناك رعاة أغنام وإبل يطربون للود الذي تحمله رياح المواسم ورعود منتصف الليل.
العقود الأخيرة شهدت فتورا في الاهتمام الذي يبديه الأفراد والحكومات بالأمطار بالرغم أنها كانت العامل الأهم في تحديد الجدب والرخاء وإضفاء الأمل أو القنوط على حياة الشعوب والقبائل التي استوطنت شرق المتوسط وأطلت على حفرة الانهدام.
الكثير منا على يقين أنه لا اقتصاد صحيا ولا أمن غذائيا ولا استقلالية إن أخفقت البلاد في إنتاج غذائها، فالحياة الآمنة لا تتحقق بالاقتراض وجلب مشروعات تذهب عمالتها وإنتاجها وريعها لشركات وسماسرة يقطنون خارج البلاد.
على مساحة الفضاء العربي المنشغل بتدابير الحماية والإنفاق على الثورات الوهمية لا توجد مشاريع نهضة تلفت الأنظار والكثير مهتم بمدى النجاح الذي قد يحققه في عرقلة مسيرة الأشقاء أو زعزعة استقرارهم أكثر من انشغالهم ببناء مشروعات وطنية حقيقية.
في وجدان الآباء والأبناء لا يزال شوق دفين للشتوة الأولى، حيث تنبعث رائحة الخصب وبشائر ملامسة القطرات الأولى للتربة التي لفحت الشمس والريح وجهها فأثارت فيها العطش والشوق إلى قطرات السماء.
هذا العام يشعر الناس بحاجة متزايدة إلى رحمة السماء فقد تأخر الهطل وأصبح الناس قلقين من خلخلة إيقاع الطبيعة الذي اختزل الآباء وصفه بقول «أيلول ذيله مبلول». اليوم ينتظر الآلاف من المزارعين الهطل الأول لحبات الخير علّهم يباشرون قطاف الزيتون ففي تشرين الأول تغتسل الشجرة المباركة للقطاف وتتهيأ لإعطاء محصولها للمزارع الذي بقي يرقبها ويعتني بأطرافها طوال عام.
على غير العادة تأخر نزول المطر هذا العام فها نحن ندخل تشرين الثاني بانتظار رحمة السماء وكلنا أمل ويقين أن تنتظم الحياة بالإيقاع الطبيعي الذي ألفه الآباء وألفناه عبر آلاف السنين، ففي ثقافتنا أمل لا يقبل القنوط وإيمان لا تبدده الشدائد والمحن.
الغد