أقتفي أثري .. أنقّب عن بلادي
جريس سماوي
30-10-2020 03:25 PM
خاط المؤرّخ لي رداء ضيِّقا
نسجته ريشتُهُ التي كُتبتْ بها
خطبُ الطغاةِ
وصممتهُ حروبُهم وسيوفُهم
فخلعتُه عني،
رداءً ضيّقًا رثًّا كئيبًا
ليس منّي
لا يليقُ بمنكبيَّ ولا بطولي
أو تسامُق هامتي.
ورداءُ أمي كان أجملَ
كان أبهى
فارتديتُ رداءَ أمي،
وارتديتُ بهاءَها
أمي التي خاطتهُ لي بيدين مبدعتين
منصّتتين للمعنى،
لنبضِ الله في نيسانَ
مزهوًّا بعطرِ زهورِهِ
أمي التي غزلتهُ لي
بيدين عابدتين
خاشعتين للأسمى
لنبضِ اللهِ في الإنسانِ
محتفلاً بومضِ شموسِ تموزَ المهيبِ
رداءُ أمي
كان حلواً طيّباً
أفقاً، مضيئاً، فارها
يسعُ الكواكبَ والنقوشَ
ويهتدي ببلاغةِ الجدّاتِ
يكتبن المجازَ بإبرةِ المعنى،
بغرزَتِها الحكيمةِ،
إذ تتبّعَ خيطُها الغجريُّ سيرَ نقوشها الأولى البعيدةِ
وهو يعرجُ بالدروبِ إلى الموانئ والمدائنِ والجهاتِ..
رداء أمي المشتهى
حاكته من وهجٍ ودمعٍ واجتراحِ قصائد الحب القديمة
كان ثوبا من حريرٍ باذخ
ويليق بي
وبطوليَ الملَكيّ
كان ملوّنا ومزركشا
نهر على كُمّي الشمال يفيض بي
نجم على كُمّي اليمين يضيء بي
والصدر مشتعلٌ بأغصان الدوالي والكرومْ
في الياقةِ اليمنى غزالْ
في الياقةِ اليسرى غزالْ
والقمحُ مرسومٌ على حوران في أعلى القميص
عليه بحرٌ واسع
يصلُ الموانئَ كلّها
وجبالَ أوراس البعيدةَ
في قماشته المدى يمتدُّ،
فيه سنابلُ القمح
التي قد طرّزتها الشمس
وارتسمتْ على متن القميصِ حروف أشعار عتيقات، كواكبُ سبعةٌ، عنبٌ، دوالٍ، وردةُ الدحنون، نهرٌ، ساحلٌ، أدُونيسُ، بحرٌ، ثورُ "أُوروبا"، حوافر خيل “قدموس”..
ارتديتُ عباءةً من شمس كنعانَ
ارتديتُ سحابة..
أُفُقًا..
فضاءً أزرقَ المعنى
تسامى في المدى
قد طرّزتْ ثوبي بُنيّاتُ الزمانِ
وضعنَ أحلامي على الياقات
ألفّن القصائدَ حول أكمامي
كتبن بخفيةٍ تعويذتي
أسماءَ أجدادي وأبطالَ الحروب العادلةْ..
مدنٌ مطرّزةٌ على سطح القماش
عليه شامُ، وقيروانُ، وموصِلُ..
ارتسمت عليه مدائنُ الدنيا
الرصافةُ، منبجُ، البترا،
سريرُ النهر في إنطاكيةْ
وعليه رسمُ اسكندريةَ
والضفافُ الغافيةْ.
ولبستُ تاجا فوق ثوبي
وارتحلتُ الى البلاد
إلى النقوش على القماشِ
الى الموانئ والمدائن والوشوم على الرداءْ.
ورحلت في ذاتي
افتّشُ عن ملامحيَ البعيدةِ
أقتفي أثري
أنقّبُ في الخرائب عن بلادي،
أقتفي أثرَ الخرائطِ والرسومِ
وأقرأ الآثار
هل وطني هنا؟
وأصيح هأنذا عثرتُ عليّ،
هأنذا وجدتُ دمي، شبيهي في التراب، وجدتني..
وجهان لي في دفتر التاريخ
لي في كل وجه منهما وجه النقيضِ
أنا الضحية والمضحّي
والصلاة،
أنا التقى، العصيان، نصلُ السيفِ، تأنيبُ الضميرِ،
أنا الدخانُ وظلّه،
وصفُ المؤرخ للمذابح والحروبِ
بجملة صفراء في كتب الأباطرة القديمةِ..
اتبعُ الورقَ العتيقَ واقلبُ الصفحاتِ
تخذلني اللغات
فأكتفي بنقوش ثوبي
اقرأ الهجرات
والترحال
في قلبي الخرائطُ
في دمي الطرقاتُ
أسلكها وأشعل هاجسي وأسير ممتلئا باسراري
أنا ابن الشرق،
من طوروسَ حتى البحرِ
افردُ في الفضاء جناحيَ البريَّ
أعلو بالبلاد
على الخريطة كلِّها
وأصيحُ مزهوا:
أنا ابن الشرق يا وطني،
ستنهضُ من خرائبنا وتعلو
فوق ما رسم المنقِّبُ
أو رفى الأثريُّ خيطَ رجومه وكهوفه
وأنا بلاد الشام يا وطني أنا،
إنّي المسيحيُّ "الأراميُّ" الذي جهرا عصى روما
وأعلى صيحةً،
وانحاز للصحراءِ
منتسباً لنبض رمالها
مستودعا إيمانه فيها
حزينا غاضبا
إنّي "الأروسيُّ" الذي رفض الأقانيمَ،
الحنيفيُّ العنيدُ،
أنا بحيرى، وابنُ نَوْفَلَ، والمعمّدُ، والذبيحُ
أنا جميع الهرطقات معا..
أنا كل الرسالات
الهدى ونقيضُهُ
وأنا جميع المؤمنين العابدين الزاهدين الصابرين
أنا جميع الخارجين الناكرين الصابئينْ.
ملكٌ لمملكتين من كفرٍ وإيمانٍ
سلكتُ مسالك الشرق العتيق
وطفت انحاء الممالك والتخوم
على فمي نحل اللغات
وفي يدي كتبي وأسفاري وأسرار الرواة
هجرت ما خاط المؤرخ إذ تولّى معرضا وعليه من أثم "الأريسيين" ما فعل الطغاة
قرأت ذاكرتي على ثوبي الذي حاكته لي أمي
وعاتبت السماء
مصليا متهجدا
ورفعت أثامي
رفعت يدين عابدتين منصتتين للمعنى
لنبض الله في الإنسان
إذ ترفو يدا أمي ملامحي الأثيرة
في قماش الثوب
أبدو باسما مستبشرا عذبا
ومكتملا بذاتي
حاضنا بيديَّ ما أجترح الإله
وغامرا روحي بإيقاع الحياة
كأنني ضوء وامتلك الجهات