شهدت التداعيات الرسمية والشعبية على واقعة نشر الرسوم المسيئة للرسول محمد "صلعم" تصاعداً ملحوظاً، فبعد أن تم نشرها في صحيفة (شارلي ابيدو) الفرنسية وما تبع ذلك من الإقدام على مجزرة طالت العاملين في الصحيفة، وأدان غالبية الناس نشر الصور وجريمة القتل الجماعية. نامت الفتنة حتى جاء من يوقظها حتى ولو على غير إدراك منه، عندما نشر أحد المعلمين الفرنسيين لطلابه مرةً أخرى هذه الصور الكاريكاتيرية المسيئة لنبي الاسلام، على اعتبار أنها بمفهومه تدخل في باب حرية الرأي، وجاء من يصب الزيت على النار عندما قام أحد المسلمين الملقنين بخطاب التكفير والذبح بجزّ عنق معلم المدرسة الفرنسية، في جريمة هزت أركان المجتمع الفرنسي، دفعت بالرئيس الفرنسي أن تأخذه عزة ورد الفعل بإثم تبني اعادة النشر، باعتبارها شكلاً من أشكال حرية التعبير، وإن الإسلام بحاجة إلى إعادة هيكلة، وبالمجمل ألقى باللائمة على الدين الاسلامي وليس على فئة من أتباعه، وأعلن عن عزمه اتخاذ إجراءات حازمة، قد تطال أحوال ومعيشة مواطنيه المسلمين في فرنسا، ولا شك أن هذه الجالية ستكون الضحية الرئيسة جراء ما ستأتي به الأيام القادمة، ولا سيما أن جهود التحشيد والشحن ستجد طريقها الى مهاجر تكفيري أو متطرف جديد.
علينا أن ندرك أن الرأي العام في فرنسا لا يقبل أن تتوسع المفاهيم التكفيرية، لتشمل متبنيات وقناعات وأساليب حياة الآخرين في دولة علمانية صارمة، ورغم ماضي هذه الدولة وتاريخها الاستعماري إلا أنها تبقى بلد الثورة الفرنسية التي أضاءت للعالم مبادئ الحقوق والحريات والتسامح، والذي ضرب به السيد ماكرون عرض الحائط، عندما أساء بتبنيه نشر الصور وإهانة الملايين من المسلمين، منهم ستة ملايين فرنسي، وهم مواطنون من أبسط حقوقهم أن لا يتم المساس بمعتقداتهم وإيمانهم، حتى لو قام أحد المتطرفين الذي لا يمثلهم بفعلته النكراء والوحشية، وهو فعل مُخجل ولا ينتمي لجوهر الدين الذي شوهته فلسفة ودعاية داعش والقاعدة وباقي شرذمات المرتزقة المأجورين، والذين تمت صناعتهم على أيدي الدول الاستعمارية الكبرى التي تنادي بحرية الرأي والسلام والتسامح.
لا يمكن للتسامح الذي هو مفهوم عام أن يكون حصراً على دينٍ أو عقيدةٍ معينة، بل يجب أن يكون مرادفاً لصفة الإنسان مهما كان دينه وعقيدته، كما أن ليس من حق أبناء أي دين احتكار الحقيقة حول تصرفٍ أو فعلٍ معين، ولا يملك الرئيس الفرنسي أن يعتبر الرسوم التي تسيء الى رسول الله لدى أكثر من مليار مسلم، أنها تدخل في باب حرية التعبير، ولا يملك الفرنسيين المسلمين الذين لجأوا إليها طلباً للحرية وكرامة العيش أن يفرضوا قيمهم وقوانينهم في إنزال العقوبات على باقي المواطنين الفرنسيين، ولهم الحق أن يغضبوا لدينهم وأن يقاطعوا، ولكن ليس لهم أن يحرقوا أو يقطعوا الرؤوس أو يطعنوا بالسكين أو الفأس، لأنهم بذلك يقدمون خدمة مجانية لليمين الفرنسي والأوروبي في مسعاهم المتطرف تجاه الجاليات العربية والإسلامية المتمسكة بالجنسية والتراب الفرنسي.
صحيح أن ديننا الحنيف قد تعرض للتشويه من شيوخ الفتنة ومن المستشرقين المعادين للحضارة والثقافة الإسلامية، وخرج علينا مجموعات من التكفيريين والمضللين ومنهم الشاب الشيشاني المسلم الذي أشعل عود الثقاب وأعادنا الى المربع الأول في مسألة صراع الحضارات وتصادم الأديان، ودفع مسألة التعايش في المجتمعات الأوروبية نحو أفقٍ مظلم، بدلاً من توحيد الجهود نحو أنسنة مفاهيم الحياة بين الناس، بعيداً عن علاقة الإنسان بخالقه ومعتقده.