اعلم بأن مقالي هذا لن يعجب الكثير من هم حولي ان كان صديق او مسؤول او اي شخص يتواصل معي ولكن هذا الشيء استنتجته في غربتي وحياتي المهنية التي امتدت اكثر من خمسة وعشرين عام فحينها سوف يكون جوابي لهم "الي على راسه بطحة بيحسس عليها"، لقد اصبحنا في واقع قذر واليم في ظل هيمنة اقتصاد السوق و القيم الرأسمالية التي لا تؤمن إلا بالربح السريع، حصل انقلاب مهول في القيم الاجتماعية و الأخلاقية رغم الصعود الكبير على مستوى تدين المجتمع، و بالضبط طفت على السطع ظاهرة النفاق الاجتماعي بشكل غير مسبوق، ما يهدد صفاء العلاقات الاجتماعية وحسن المعاملة والصدق مع الناس، كما أنه بات يخترق جسد المجتمع من أفرادا ومؤسسات ودوائر ومنظمات حكومية ومنظمات شعبية ليلقي بظلاله السيئة على كل المنظومة القيمية مهددا مجتمعاتنا بمزيد من التدهور والانحطاط الأخلاقي والاجتماعي، مما يضيق هامش الممارسة الصادقة التي تبعث على الأمل في المستقبل، التي من المفروض أن تشد الناس إلى الإخاء والمودة ودماثة الخلق وحسن المعاشرة، وترسيخ منطق العدالة الاجتماعية في التعامل اليومي. فما معنى النفاق الاجتماعي بداية؟ و ما هي أسبابه و أنواعه و حتى مظاهره؟
النفاق اصطلاح نفسي أخلاقي اجتماعي، وهو بالمطلق قيمة أخلاقية ثلاثية البعد الدلالي والتشخيصي، أخلاقي مطلق، نفسي، اجتماعي. وإذا ألقينا نظرة على قاموس لسان العرب وجدنا يضع لجذر النفاق معنيين متناقضين ظاهرياً:
أولهما الموت الذي لا يستحق الاكتراث أبداً، ولذلك سمي موت البهائم بالنفوق ولم يسمى بذلك موت الإنسان.
ثانيهما رواج السلعة أو الشيء، أي تزايد اهتمام الناس به، ولذلك قالت العرب: نفق البيع: راج..ونفقت السلعة: غلت ورغب فيها.
الوجهان على تناقضهما يصلحان أساساً لفهم النفاق، لن نستطيع ولوج عمق الدلالة الحقيقية للنفاق من دون الوقوف على هذا الجذر اللغوي بوجهيه، ولكن ابن منظور يقرر أن اصطلاح النفاق لم يشتق من أي منهما وإنما اشتق من سلوك اليربوع الذي يدخل الجحر من مدخل وإذا هوجم هرب من «النافقاء» وهو موضع يرتقه اليربوع في مكان حجره حتى اذا هوجم نقره وهرب منه، ومن ذلك قال بعض اللغويين القدامى:”سمي المنافق منافقاً لأنه نافق كاليربوع…”. هذا الاصطلاح ظهر في اللغة العربية مع ظهور الإسلام، وعنى استناداً إلى جذره اللغوي:«ان يستر المرء كفره ويظهر إيمانه» والنفاق هنا إذن يشبه الرياء فكلاهما إظهار خلاف ما في الباطن..ولكن السؤال الذي يفرض ذاته الآن هل كل إظهار المرء خلاف ما يضمر أو يبطن هو نفاق؟ لعل أبرز ملامح الشخصية المنافقة هو: القدرة على المراوغة والتحايل والتقلب في المواقف، التشبث في الخطاب الديني أو السياسي أو الاجتماعي لإسناد تصرفاته المختلفة، و الكذب المتواصل في الحديث وفي العلاقات الاجتماعية، و خيانة الأمانة، و الإخلال بالمواعيد، و التحكم في الانفعالات وإظهار نقيضها بما يبعد عنه تهمة النفاق،و يحاول المنافق الاهتمام بالمظهر الخارجي كجزء من سيكولوجيا الظهور لاختراق الوسط الاجتماعي الذي يتواجد فيه مقرونا بحلاوة اللسان وإجادة لغة الجسد كتعبيرات الوجه وحركات اليدين وغيرها من الصفات والصفات المضادة ذات الطابع التمويهي، ومع أن هناك الكثير من الإدانة للمنافق في الموروث الثقافي الشعبي وتأكيد خطورته، فإن حضورهم يكاد يغطي جميع العلاقات الاجتماعية. أما على مستوى خطورة المنافق فيقال: أن أفعى لسعت “منافقا” فتسممت، وماتت.
و في هذا المقال لا أدعي أني سوف أحيط بظاهرة النفاق بشكل شمولي فلذلك أحتاج إلى تأليف كتاب، لذلك سأقتصر على تحديد بعض الأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة باعتبارها صارت مقلقة و مزعجة، مع أن نشأتها وانتشارها على مدى التاريخ العربي قديم جدا.
لقد أوضحت العديد من دراسات التحليل النفسي أن البنية النفسية للإنسان هي الحامل لأنواع السلوك و من بينها قد يكون النفاق، فإذا نظرنا إلى دوافعه الخفية وجدنا أن الأسباب هي الخوف أو الطمع أو الوصولية والانتهازية، ولكن هذه الأسباب لا تعدو أن تكون الصورة الظاهرة لأسباب نفسية داخلية يمكن تقسيمها من خلال عناصر مستقلة مع أنها ليست مستقلة عن بعضها البعض بالضرورة في تأديتها إلى النفاق، ولكن قد يفعل كل منها فعله من دون وجود غيره من الأسباب، أما هذه الأسباب فهي:
1ــ انعدام الثقة في النفس او ضعفها أحد أبرز الأسباب المؤدية الى النفاق، ذلك أن انعدام هذه الثقة أو ضعفها يقود المرء إلى الشعور بالضعف والدونية وبالتالي للتغطية على هذا الضعف يرى ضرورة اللجوء إلى النفاق إما على شكل مجاملة أو باعتباره ضرورة اجتماعية لمجاراة الحال، قد يكون هذا النمط من النفاق مصحوباً بنزوع وصولي، ولكنه على الأغلب لا يكون كذلك، ومن ناحية أخرى قد يكون مصحوباً بالرضا والقناعة والقبول بالنفاق بوصفه (مجاملة وتلميعاً) وهذا هو الأغلب، ولكنه قد يكون مصحوباً بنوع من عدم القبول والرضا، وقلما يصل إلى عدم الرضا إلى الحسد.
2ــ الشعور بالنقص هو السبب الثاني من أسباب النفاق، وهذا النوع من الأسباب خطير جداً لأن الشعور بالنقص يقود المرء إلى استشعار العظمة في الآخرين والإيمان بأن النفاق لهم واجب اجتماعي عبر مدح إنجازاتهم و مجاملتهم مع علمه اليقين أنه لن يستفيد شيئا من ذلك لكن هذا المدح بالنسبة له يشكل تعويضا عن عقدة النقص، ولذلك غالباً ما يكون هذا السلوك النفاقي رغم ما يبدو عليه ظاهريا مصحوباً بنوع من الغل والحقد تجاه من يتم النفاق لهم، وقلما يكون مصحوباً بمشاعر الرضا والقناعة والقبول.
3ــ عندما يكون طموح المرء أكبر مما لديه من قدرات شخصية، الأمر الذي يدفعه إلى محاولة تحقيق مكاسب من خلال تلميع صور قادته ومن هم أكبر منه على أمل أن ينظروا إليه بعين الإحسان و تحقيق مطالبه في الترقي و الصعود.
4ــ من أسباب النفاق أيضا هو عدم اقتناع المرء بواقعه، ومكانته الاجتماعية أو مهنته، و مع إيمانه بضحالة أو انحسار أو انعدام إمكانات تحسين هذا الوضع في الأمد القريب، الأمر الذي يدفعه إلى منافقة من هم أعلى مرتبة منه و قيمة و قدرة للوصول الى ما يَعتقد أنه حقه بغض النظر عما إذا كان المرء المُنَافِقُ يستحق الارتقاء في مكانته هذه أم لا، وبغض النظر عن امتلاكه الكفاءات والإمكانات اللازمة لذلك..
5ــ عندما يكون الحقد أو الحسد أو حتى الغيرة جزءاً من خصائصه الشخصية، هذه الطبائع الثلاثة تؤدي إلى التشدد في عدم منافقة من يظنون أنهم ضعاف مهما كانت حقيقتهم التي قد يجهلها المنافق، ولكنهم من أكثر الناس نفاقاً أمام كل من يستشعرون القوة فيه والسطوة والهيبة، إما خوفاً أو نزوعاً تدميرياً، إيمانا منهم بأن هذا السلوك المنافق سيؤدي الى العجب بالذات والغرور الذي سيقود في المحصلة إلى تدمير ذات الشخص المُنَافَق.
6ــ أن يكون النفاق حالة مرضية، عقدة نفسية، مثلها مثل أي عقدة نفسية أخرى لها أسبابها النفسية والاجتماعية، كالكذب، أو الخوف من الماء، أو الظلمة أو المرتفعات….والمشكلة هنا أن المنافق يقوم بسلوكه النفاقي من دون الاعتراف به أو من دون رغبة و حتى الوعي به.
وإذا كانت البنية النفسية للإنسان هي البنية الداخلية له، فإن البنية الخارجية له هي البيئة الاجتماعية أو المحيط الاجتماعي، والمحيط الاجتماعي بكل علاقاته الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و حتى الثقافية له تأثيره الكبير في الفرد، ولكن هذه البنية الاجتماعية مرتهنة دائماً بالمعطيات والظروف التاريخية للمجتمع وموقعه من المجتمعات الأخرى من جهة، ومكانته الاقتصادية والسياسية والمعرفية من جهة ثانية. لذلك فالبنية الاجتماعية هي في حقيقة الأمر بنية نفسية جمعية ومجموعة أخرى من العناصر مثلما أن البنية النفسية هي جزء من مكونات شخصية الفرد، وهي بحكم كونها بنية نفسية جمعية فإنها تمارس تأثيراً معيناً متفاوت القوة في بناء البنية النفسية الفردية، ولذلك هي أيضاً من حوامل السلوك الجماعي، والسلوك الفردي أيضاً، ومن هنا فإن البنية الاجتماعية تمارس تأثيراً أيضاً في النفاق، فالعادات والتقاليد والأعراف والمستوى الحضاري للمجتمع عوامل تحدد مدى انتشار النفاق في كل مرحلة من مراحله التاريخية.