في الوقت الذي تتوالى فيه أخبار غياب بعض القادة عن القمة العربية المزمع عقدها في سرت الليبية، يحضر في بالي معلم الجغرافيا النزق، وكيف كان يدخل غرفة متأبطاً خارطة متآكلة، بار لونها وبهتت خطوطها، وتمزقت أطرافها، وكنا نقف إجلالاً له متصنمين كحرف الألف، ثم نجتر الأحلام الهاربة من نافذة الصف المكسّرة الزجاج، التي تلفحنا بهواء بارد يغسل عنا بقايا النوم!.
المعلم الجميل، الذي كنا نحبه رغم سرعة انفجاره، وبعد أن يتصفح وجوهنا كان يشير لنا بالقعود والصمت، ثم ينشر خارطته الصماء فوق سبورة تعج بالخطوط والخرابيش، وبين الفينة والفينة، كان يتأفف وينفخ بفمه ويزفر بحرقة، ثم يأمرنا بحزن أن نخرج واحداً تلو الآخر، نحدّد بالعصا الطويلة وطناً عربياً كبيراً صامتاً، تحيطهُ الماء، وتغرقه الصحراء!!!.
درس الجغرافيا كان ربيعاً طويل لقلوبنا الراعشة كعصفورٍ في قبضة طفل شغوب، وحين كنّا نجرؤ ونسأل المعلم عن هذه الخطوط المستقيمة أو المتعرجة، التي تفصل وتقسم وطننا العربي الواحد، كان يقول بمرارة وحشرجة، ترافقها دمعة ساخنة نكاد نحس لهيبها من بعيد:إنه الاستعمار يا أولاد..الاستعمار الذي قسمنا وجعنا صغاراً..صغار!!!، وكبرنا، ونحن نتخيّل ذلك الاستعمار في داخلنا سكيناً تحزّ كعكة أرواحنا، وتقسّمنا فتاتاتٍ فتاتاتٍ؛ ليسهل ازدرادنا كما تزدرد الماء!!.
معلم الجغرافيا ما زال على في رؤوسنا بخارطته المتآكلة وصوبه المحشرج، ذلك المعلم الودود الذي بذر فينا قمح الوحدة!، وحبَّ الوطن من نجد إلى يمن، ومن مصر فتطوان، قال لنا ذات قهرٍ: إن الأفواه التي تصرخ بالوحدة، لن ينالها إلا تمزق حبالها الصوتية، ونزول بنات آذانها!، فكلُّ الخرائط ستظل صماء وعمياء وخرساء، ما لم تكتبها إرادة الوحدة والتوحد!!.
المواطن العربي صارت لديه مناعة قوية ضدّ فيروسات المهرجانات القمميّة، فهي تأتي وكأنها لم تأت!، فالقمة عنده تشبه القاع، والقاع تماماً كالقمة، لكنه يشعر أن الخرائط الصماء، ستظل صماء كالجدران التي ننشرها، وسيظل معلم الجغرافيا شوكة في حلوقنا، كلما دخل غرفة الصف بقامته المحدودبة وخريطته المتآكلة!!.
كلما لاح في الأفق مؤتمر قمة، لا أدري لماذا أتحسر شوقاً إلى معلم الجغرافيا، ذكره الله بالخير!.
ramzi972@hotmail.com