طرب:
اعتاد أنْ ينامَ بعد صلاةِ العشاءِ صيفًا، في غرفةٍ عُلويّةٍ ذاتِ نافذةٍ غربيّةٍ يُداعبها النّسيم، ولا يفتأ جارُه يسامرُ النّجومَ في (بلكونة) غربيَّة، ويَطيبُ لجارِهما في (فيلا) غربيّةٍ، السَّمرُ والطَّربُ مع أصدقائِه بعد الحاديةَ عشرةَ، في جوٍّ لطيفٍ مصحوبٍ بضحكاتٍ هادئة يُشْعلُها "ظريفٌ"، وذاكَ يُغرّد لأحلامٍ ورديَّةٍ تتحوَّل كوابيسَ، يُثيرُها "خفيفُ ظلٍّ" يَعلو صوتُه: "بَسّك تيجي حارتنا"، فيزيدُ أزيزُ القَهْقهاتِ بانفعالِه، وبحركاتِ رأسِه، وإغماضِ جفنيه، فإذا أدار الموجةَ: "يا مال الشّام"...، تَجاوبَتِ (البلكونة) على وَقْعِ الصَّدى، وصاحتِ النافذة: (بَعْدين؛ النَّاس نايمة).
هَسْهسة:
انتعشتْ روحُه أنَّه سَيَمتحنُ طالبةَ ماجستيرٍ بصحبةِ روحٍ شفيفةٍ؛ طالَ تودُّدُه وانصرافُها، واتّصالُه وبَينُها، وضُمورُه وانتفاخُها. هو في الموضوعِ جدير، وهي فطيرةٌ فيه لا فتيلَ لديها ولا قطمير. كان في الحوارِ ساهمًا؛ لأنَّ الأمرَ مُعلَّقٌ بالقلوبِ: يوزّعُ أمامَ الشّاشةِ ابتساماتٍ عُرفَ بها، وعُرفتْ به، ليثيرَ قلبًا تَمنّاه.
في القاعةِ الأخرى حَضر العقلُ وغابَ القلب، وبِرَزانتِها وحُسنِ تأتّيها بَزَّته، وصَرفتِ الجمهورَ إليها؛ فانتعشوا إثرَ نُعاسٍ وغَفوةٍ؛ فَضَلَّ الجدير، واعتلى الفطير.
حرمان:
عَرفَ الطالبُ الشَّقيُّ نقطةَ ضَعفِ أستاذِه في الجامعة، فراحَ يُقفلُ ورقةَ كلِّ اختبارٍ بعباراتٍ مُزركشةٍ؛ يَتغزَّلُ فيها بعينَيْنِ مُلوَّنتينِ، وابتسامةٍ تَفترُّ عن حبَّاتِ بَرَد، وتَسْريحةٍ لا يَسْتطيعُها (كوافير) حاذقٌ مِفنٌّ.
يُصحّحُ الأوراقَ، يبدأ بالورقةِ الناعمة، فلا يَسعُه مكتبُه، فتَخطَفُه رِجْلاه إلى صديقه قُبالتَه، فيقرأ عذاباتِ الرُّوح، ويعيدُ ثانية، ويستعذبُها ثالثة، ودَمعتانِ تَسيلانِ على خدَّينِ قِرمزيَّين، كأنَّهما اللؤلؤ!
- هذا هراءٌ يُعوِّضُ به الطالبُ ضعفَه ونَقصَه (قاطعه، يَتلطَّفُ به ولا يُشعرُه).
- يَستفزُّه الوجعُ: أيُّ ضعفٍ وأيُّ نقصٍ؟ هذا غزلٌ ما سمعتُ به من خمسٍ وعندي ثلاثة!
نَعي:
غرَّدتْ ناعيةً: "محمود ياسين" في ذمَّة الله، فكتبَ مُعزّيًا: رحم اللهُ "أبا حنيفة"، و"أحمد شوقي".
خِيفة:
زامَلها في إحدى الجامعات، تَعْرفُه في البحثِ ويَعرفُها، فيها حِدَّة وعناد، لا تُقيلُ عَثرة، غَنيتْ بجمالِها...، تختالُ كأنّها طاووس. اختلفَ إليها، أكبرَها لِمَا تَراءى له من هَيبتها، جلسَ حذاءَها، وَعَظتْه، رَقَّتْ في الموعظة، أصابته نَشْوةٌ، حَلَّقت به في المَلكوت.
أَوْجَستْ خِيفة يومَ الاختيار: تَخلَّفتْ...، طارتْ مَواعظُها...، وهَوتْ "في مكانٍ سحيق"!
بطاقة:
كانت ساهمةً، تُداعبُ بعقلِها مشاعرَها في أبنائها: نَصْحبُهم بأناةٍ ورِفق، ونُغنّي لهم على وَترٍ يُقرّبُنا إليهم...
لفتَ انتباهَها في مكتبِه: يَبتسم، يُحرَّك رأسَه يَمْنة ويَسْرة، ويُشَبَّر بيديه، فأثار فضولَها:
- ما بكَ -على غيرِ العادةِ- تبتسم؟
- انظري ما كتبَ "أحمد أمين" عن طفولته في "حياتي"؛ ذكرَ أنَّ صاحبَ دُفٍّ مَرَّ بِحارَتِه يَسْتجدي بالفنّ، فراقَه وَقعُ الضَّربِ على الدُّفِّ مع الإنشاد، وطربَ لهذا السُّلوك قُبيلَ الغروب، فتبعَه، فدخلَ مع (الطّبّال) في حارةٍ ثانية.
- وماذا فيه حتّى تبتسمَ وتُشبّر؟
- لو كانَ والدي يُحبُّ الرياضةَ مَشْغوفًا بها، لابتاعَ بنفسِه بطاقةَ (Bein Sport)، بدلًا مِن مَصروفنا!
- وما دخلُ أبيك بأحمدَ، والطّبّالِ، والرّياضة؟
- عندما عادَ الشَّقيُّ ضربَه أبوه من غيرِ سؤالٍ ولا جواب.
- لأنَّه شقيّ؛ نَسي ما كان ذكَّره به، ألَّا يتأخَّرّ عن البيتِ بعد الغُروب.
- صحيح، بل لأنَّ شيئًا ما -غيرَ شَقاوتِه- دفعه إلى ذلك.
- طيّبْ... إلامَ ترمي؟
- طيِّب! قال أحمدُ ضَجِرًا: "لو كان أبي فنّانًا لقبَّلني؛ لأنَّه كانَ يكتشفُ فيَّ أذنًا موسيقيَّة، وعاطفة قويَّة". (قالْ طيّبْ قالْ)!
أحلامُ:
- غَرَّد وقد كَواه الحنين: كلُّ كَيٍّ دون كَيِّ الوَطن.
- رَدّتْ بوحي الحنين: زدْ: عافية.
- مَحرومٌ قَلاه الوطن، تأوَّه: بل... "أحلامُ".