الذين ذاقوا حلاوة الشهرة، احترقوا ببريق النجومية. والذين اختاروا التحليق في الفضاء العمومي، أهدروا لذة الحرية الشخصية.. لذة أن يغدو الكائن واحداً من الناس، وتلك لذة لا يضاهيها شيء في الوجود، ولا مبالغة في ذلك.
يذهب الواحد من الناس إلى المقهى، ويختار مكاناً مطلاً على الضجيج، ويمضي في تأمل الكائنات ببطء، كأنه يتشرّب ملامحها قطرةً فقطرة، فلا يؤرّق متعته أحد، ولا يتطفل على فسحته أي كائن بشري للحصول على توقيع، أو التقاط صورة «سيلفي» معه.
إنه، أي الواحد من الناس، مأهول بذاته، محتشد بالجماهير التي في قلبه، وليس محتاجاً إلى الآخرين. قوته تنبع من الداخل الوافر الثراء، لا من الخارج المخادع، شديد اللمعان، سريع الانطفاء.
الواحد من الناس، يسعى في مناكب الأرض بلا أوهام، يحشر أكتافه بين الجموع في الباص والسوق الشعبي، وفي صالة الرقص، فلا يعبأ بأحد، إن هو التقط له صورة، ولا يخشى النشر، فهو كائن عادي، بالكاد يعرفه أهل حيّه، ولا ضير في أن يقنصه أحد، ولا بأس في أن يتداول رقم موبايله مع الآخرين. إنه يختار أصدقاءه كيفما راق له قلبه، ولا يفرض الآخرون عليه حصار الصداقة، لأنه، وحسب، مشهور ونجم.
النجومية تحقق لأصحابها مكاسب مالية، وأحياناً ترفع مستوى الرضا عن النفس، وتحفّز هرمونات السعادة، فيشعر أصحابها ببهجة السلطة العاطفية على الجمهور، لكنهم كلما انشغلوا وتورّطوا في هذا اللعبة، قضموا شيئاً فشيئاً من حريتهم، ومن مساحتهم الشخصية، فلا يعودون قادرين على الجلوس في مكان عام، ولا السباحة في شاطئ يتشاركه الآخرون، ولا يستطيعون أن يكونوا في الفضاء العمومي، أكثر من روبوتات تتصرف بمقدار معين، وتوزع ابتسامات الرضا ذات اليمين وذات الشمال، كيلا تنخدش صورتهم، وينفضّ عنهم أتباعهم المعجبون.
النجومية مقايضة أليمة على الحرية الشخصية. وهذا ما على الكائن أن يعيه مبكراً، ويسأل نفسه ماذا يريد، وما هو الأكثر بعثاً على الحبور في روحه. وثمة من قتلوا النجم في أنفسهم بطواعية، وعملوا بدأب ألا يُعرفوا، فكانت «عتمة» الواحد من الناس، واحةً مشرقة بالشموس بالنسبة إليهم، فعاشوا كما يليق بالصعاليك النبلاء، والمجانين الذين رصّعوا اللحظات بانشقاقهم، وكتبوا في دفتر العمر سيرة الشغف والتمرد والجمال، وهتفوا مع بابلو نيرودا: «أعترف أنني قد عشت».
لذا، لا يدرك متعة الحرية، إلا من كابد الاحتراق بلهيب الكاميرات، وتجرّع مرارة التضحية بأناه الحقيقية، لمصلحة أنا مصطنعة، مزيفة، يرضى عنها الجمهور، وتتطابق مع توقعات الإعلام، وتستجيب لإملاءات الـ «الشو»، بكل إكراهاتها التي تنزع من الكائن تلقائيته، وتحوّلها إلى عجينة يشكّلها الآخرون، كما شاءت أمزجتهم وانتظاراتهم.
الكاميرا حصار، ووسائل «السوشيال ميديا»، بأذرعها الأخطبوطية، سجن يضيق، كلما زادت شهرة النجم ولمعت أقماره. الإعلام ذئب شرهٌ، لا يشبع من أخبار المشاهير، ولا تحدّ شهوته ضفاف أو روادع، ولا يُعير أي قيمة إلا للسبق الصحافي، وقد شاهدنا، كيف قاد ذلك إلى مقتل الأميرة ديانا، التي تسابق مصوّرو «البابراتزي» لالتقاط صورة لها مع دودي الفايد، فدخلوا في سباق مع سائق سيارتها، فكانت الكارثة التي هزت ضمائر كثيرين حول العالم.
لم تعد الشهرة جوع الشباب، بل لفحت نارها الكهول، ممن أغراهم البريق الساطع، وطابت لهم الإقامة في دائرة الضوء. وفي ظنهم أنّ ذلك يغذي شعورهم المتعاظم بالسلطة والقوة والتأثير، وربما يكون ذلك صحيحاً، لكنه مؤقت وسريع الذبول، فالمجد ليس التماعة كاميرا، وليس أن يكون لديك متابعون مليونيون على شبكات التواصل الاجتماعي، بل هو أن يظل لمعان نجمك عابراً للأزمنة، راسخاً في ذاكرة التاريخ، يستضيء بإشراقه عشاق النور الذي لا يخفت، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
البيان