للهِ دُر الحظر فهو مُدعاة للانعزال والتفكر بعيداً عن صَخبِ عمل أيام الأسبوع وانشغالاته وحركته الدؤوبة التي تعمل على ابتكار الشر وهو طريق القلق والتوتر والحظر طريق الطمأنينة والركود، حيث أتيح لي قراءة كتاب مهزلة العقل البشري للكاتب د.علي الوردي فطريق التوتر والقلق وطريق الطمأنينة والركود لا يلتقيان فالمدَّنية والقلق صنوان لا يفترقان وهي قائمة على الكدح والشقاء والمعاناة.
فالمدَّنية لها ثمنٌ باهظٌ فهي ربحٌ من ناحية وخسارة من ناحية أخرى فإذا أراد المتمدن السيرُ في رِكب المدَّنية عليه أن يفهم بأنه مُقبلٌ على الألم والقلق والعناء، وعكسه البقاء في الطمأنينة والراحة النفسية فوجب عليه الركون.
وقد أُبتلي الانسان بهذه المشكلة ذات الحدين فأمامه طريقان متعاكسان فإذا كانت المدَّنية تتمثل بالشر فالإنسان لا يُدرك الخير إلا إذا كان الشرُ مقابل له، كما أنه لا يفهم معنى النور ألا إذا كان وراءه الظلام.
المدَّنية لا يمكن تجزئتها فهي كلٌ لا يتجزأ إن هي حلت في مجتمع جلبت معها محاسنها ومساوئها وإن قرر المجتمع الولوجَ إلى باب المدَّنية وجب عليه أن يترك وراءه الطمأنينة النفسية والتي كانت تكتنفه في أيام الركود.
لقد جاءت المدَّنية للمجتمعات بخير عظيم ولكنها جاءت له أيضا بشرٍ عظيم، فهي تطلق سراح الأفكار وتحثُ على الإبداع واستطاع الانسان من خلالها التمييز بين أفعال الخير والشر وأصبح الانسان يستفهم عن كل شيء مما أدى الى السير بالفكر إلى طريق القلق والشكِ وعدم اليقين، قال المتنبي: وذو العقل يشقى في النعيم بعقله... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ.
وبالمقابل فالمدَّنية ساقت المجتمع الى التزاحم واستغلال الناس بعضهم البعض لذلك ظهرت طبقةٌ مترفةٌ تملكُ كل شيء وطبقة لا تملك شيئاً، وكان الناسُ مكتفون في حال جوعهم وشبعهم وقد قيل أن المتمدن إذا جاع سرق وإذا شبع فسق وفي كلتا الحالتين شقاء فهو في حال لهاث دائم وراء هدف فإذا وصل إليه نسيهُ وابتكر لهُ هدفاً آخر وعليه فهو يركض وراء سراب دائم.
البدائيون المحافظون الذين يعيشون على النقاء والفطرة فهم إذا شبعوا حمدوا ربهم جميعاً وإذا جاعوا حمدوا ربهم كذلك، وميزتهم بأنهم يشبعون جميعاً ويجوعون جميعا فليس بينهم متخوم ومحروم والتنافس بينهم بما فيه منفعةٌ للجميع.
أما التكالب الفردي فهو عيب لا يجوز للإنسان أن يتصف به وشعارهم ( القناعةُ كنزٌ لا يفنى) فإما ان يكونوا في وليمةٍ عامة أو مجاعةٍ عامة.
حالة التيه التي نعاصرها في مجتمعنا بين الحياة المدَّنية والتقليدية التي نشأنا عليها هي سبب الصراع وآن الأوان أن نقرر أي طريق نسلك.
وأتساءل هل توغلنا في المدَّنية حد اللا عودة منه وهل أخذنا محاسنها ومساوئها بنفس القدر، أم أننا أخطأنا التقدير والميزان فأخذنا الشرور وتركنا المحاسن، وهل نحن بحاجة إلى مدّنية باطار تقليدي خالي من العيوب أو أننا بحاجة إلى حياة تقليدية محافظة بإطار من المدَّنية المتحضرة وبهذا المزيج يمكننا أن نسير بمجتمعنا بخطوات مدروسة نحو التطور والنماء وبعكس ذلك نكون كالمثل الدارج في الأردن ( لامع الجلدِ مسلوخ .... ولامع اللحم ِ مطبوخ ).