ما زلت أذكر جهاز التليفون الأسود الكبير الذي اشتراه جدي قبل خمسة وعشرين عاما , كان يتربع على واجهة الصالة بلونه الداكن وقرصه الحديدي ذي اللون الفضي . كان نقله من مكان إلى آخر أو رفعه بهدف التنظيف تحته يحتاج إلى مجهود كبير بسبب ضخامة حجمه وثقل وزنه , أما عملية الاتصال فكانت تتم عبر مقسم يربط البيوت ببعضها حيث كان يعطى رقم متسلسل لكل بيت , بيت جدي كان رقمه 3 وآخر رقم وصل على ما أذكر إلى 55 , وما زلت أذكر موظف المقسم الذي كان يتنصت على المكالمات ويعرف من أسرار البيوت ما لا يعرفه حتى أصحابها .وسائل اتصالات بدائية في مجتمع زراعي ما زال يحبو على أول طريق المدنية والتقدم , لم تكن المكالمة إلى عمان سهلة أبدا فقد كنا ننتظر أحيانا خمس أو ست ساعات حتى يأتينا الدور ويحن علينا السنترال بدقائق معدودة نختصر فيها كل حاجاتنا , وكنا إذا غادرنا المنزل إلى البطين ( لا أدري كم واحد منكم يعرف معنى كلمة البطين ) حيث تغدو المسافات فيما بيننا شاسعة بسبب ابتعاد أحدنا لملاحقة نعجة شاردة عن أخواتها أو قيام واحد آخر بالسطو على أحد مزارع الفقوس , كنا نضطر إلى التواصل عبر أصواتنا أو عبر الصفير بوضع كلتا اليدين فوق فك الأسنان السفلي وإخراج صوت يخترق مداه الآفاق .
هذا ما كنا نتقنه من وسائل الاتصالات وتلك كانت بساطة حياتنا .
اليوم تغيرت الأمور كثيرا , ثورة اتصالات مذهلة وأجهزة خلوية بعضها أرق من الشفرة وأخف من وزن الريشة , لم يعد بامكانك أن تختبيء من أحد فرقمك معروف ورقم المتصل معروف كذلك وعليه فان تجاهلك لأي مكالمة يعتبر تجاهلا للمتصل بعينه , الوسائل سهلة واستخراج رقم خاص لا يستغرق أكثر من دقائق معدودة ( نسيت أن أقول لكم أن أحد أقاربي انتظر سبع سنوات قبل أن تتم الموافقة على طلبه بإيصال الخدمة الهاتفية إلى منزله ) . وأهم ما في الموضوع أن جهاز الخلوي بات جزء لا يتجزأ من الشخصية , حتى الأطفال في الصفوف الابتدائية يمتلكون هذه الأجهزة وينشئون من خلالها عالمهم الخاص .
لكنني وبكل صدق وأمانة أشعر أننا كنا أقرب إلى بعضنا كثيرا في تلك الأيام الغابرة مما نحن عليه اليوم .
لماذا تقلص حجم الزوار في كافة مناسباتنا الاجتماعية , قدرتنا على مشاركة بعضنا في الأفراح تقلصت وإحساسنا باتراح الأهل والأقارب لم يعد موجودا . خذوا أعيادنا كمثال , فقد كنت أشاهد أكثر من ألف شخص في بيت جدي خلال الساعات الأولى بعد الصلاة , كان بعضهم يتجشم عناء السفر من شتى مدن المملكة ليكون حاضرا في صباح اليوم الأول من العيد , كنا نعلم بالضبط من سنشاهد ومن سنزور بدون مواعيد مسبقة وإجراء مكالمات خلوية للتأكد من جاهزية المضيف لاستقبال زواره , كانت الجاهزية في ذلك الوقت لا تعني أكثر من دلة قهوة تتلألأ في صدر المجلس وبعض حبات من التمر إلى جانبها صحن من السمن البلدي , كان الباب مفتوحا دوما والاستئذان لا يحتاج أكثر من طرقة خفيفة على الباب ثم دفشه والدخول مباشرة , اليوم بتنا نجري عشرات المكالمات قبل أن تتم الإجابة وأصبح تحديد الموعد دقيقا جدا والزيارات مختصرة وهامشية الهدف منها رفع العتب وأداء الواجب على مضض .
حتى الواجب هناك من تنصل منه واكتفى بتلك المكالمة الجافة التي يحسبها صاحبها بالثواني حتى لاينتهي الشحن من تلفونه .
فعلا ما أحوجنا إلى شحن أرواحنا من جديد بالألفة والمحبة , نحن محتاجون إلى بطاقات محبة تجمع قلوبنا وتوحدها , لقد أصبحنا في ثورة الاتصالات كيانات متباعدة فقدت أصالتها وابتعدت عن عاداتها الجميلة . رحم الله تلك الأيام فقد كانت أجمل من أيامنا هذه بكثير .
samhm111@hotmail.com