التعليم عن بعد خيار المستقبل: وجهة نظر
د. محمد القضاة
18-10-2020 12:24 PM
يجب أن نعترف أن خيار التعليم عن بعد صار أساسيًا في مرحلة انتشار جائحة كورونا في العالم كله، وأن التراجع عنه غدا ضرباً من المستحيل في ظل استمرار هذا الوباء ، وحين تتابع المسألة بتفاصيلها تكتشف أنها تحتاج إلى جهود خارقة وأفكار جاذبة وإبداعات غير مألوفة للوصول بهذه المنظومة إلى الهدف الحقيقي في التميّز والجودة والمخرجات المطلوبة، وهذا لا يتم بالتمنيات أو الفزعة؛ وإنما بقراءة المستجدات كافة على الصُعد الاجتماعية والأسرية والتعليمية، لإحداث نقلة نوعية جادة تصل هدفها.
وعند قراءة واقع التعليم عن بعد في الجامعات بعد فصلين دراسيين سابقين؛ الثاني والصيفي، تجد نفسك أمام آراء ومفارقات كثيرة ومتقاطعة بين الطلبة والأساتذة، وبين الطلبة والطلبة، وبين الأساتذة وإداراتهم، وكلهم يرغبون عن التعليم عن بعد، ويحبذون العودة إلى التعليم الوجاهي، وكل طرف يمتلك وجهة نظر يدافع عنها ويدفع بها الى الواجهة؛ وأولها أن القدرة على التفاعل بين الأطراف التعليمية تبدو غير مريحة وغير فعّالة وغير مجدية، لغياب الجدية عند بعض الأطراف وغياب المنظومة التي تضبط سلوكيات الطلبة، مما يشكل ضغطاً على المحاضرة والمحاضر، وبالتالي تضيع البوصلة بين طرفي المعادلة؛ خاصة أن كثيرا من الطلبة بالكاد يتفاعلون في التعليم الوجاهي؛ فكيف بهم في التعليم عن بعد؟ وان كثيرين منهم يفتحون شاشات حواسيبهم أو هواتفهم الذكية ويغلقون كاميراتهم بذرائع لا تعد ولا تحصى بينما هم فعليا في حالة غياب عن المحاضرة! وهو أمر لا تستطيع التشريعات أن تضبطه أو تلاحقه، علما بأن ظاهرة الغياب الفعلي في التعليم الوجاهي هي الظاهرة نفسها في التعليم عن بعد، وثانيها مفصلية تتعلق بالاعداد الكبيرة من الطلبة في محاضرات التعليم عن بعد، وكلنا يعلم أن الاعداد محددة بتعليمات واضحة وأرقام معروفة في وزارة التعليم العالي وهيئة الاعتماد والجامعات، وللأسف مع بدء فكرة التعليم عن بعد استغلت الجامعات هذه الجائحة وفتحت الشعب على اتساعها وغدت الشعبة المقررة في التعليمات لمواد التخصص التي كانت بـين(20-50) طالبا أصبحت بين (90-100) وشعب متطلبات الكلية المقررة التي كانت بين (60-80) أصبحت بين (120-150) وشعب متطلبات الجامعة المقررة التي كانت بين (80-100) أصبحت بين (200-250)، فعن اي تفاعل وحوار ونقاش تعليمي نتحدث؟ وكيف سيتم ذلك بين الأستاذ والطلبة اذا لم تلتزم الجامعات بالاعداد المقررة فعليا في الانظمة والتعليمات التي تحدد اعداد الطلبة؟ وكيف يتمكن المحاضر من قراءة قائمة الحضور؟ وكيف يعرف المشارك والمتفاعل في المحاضرة من غيره؟ أسئلة لا تعد ولا تحصى، وللأسف عندما تُناقش موضوعات التعليم عن بعد لا تسمع رأياً مناسباً ولا تتم المناقشة بشكل مهني ولا أحد يسأل عن النتائج المنتظرة في ظل غياب التقييم الصحيح لموضوع التعليم عن بعد، ولا عن نتائجه المستقبلية التي قد تصب في ضعف المخرجات سواء أرضينا أم اختلفنا.
إذا أردنا لهذه التجربة أن تنجح علينا أن نجند الطاقات الحقيقية المتاحة لهذه المسألة، وأن نضع الحقائق على طاولة النقاش بعيدا عن تلك الآراء التي تقول إن الطلبة يتوزعون في فضاءات واسعة ومهما زاد عددهم غير مهم، مع أنّ أهم شيء في ذلك تحديد عدد الطلبة مع ضرورة التطبيق الحازم لأعدادهم كما في تعليمات المواظبة والدوام؛ وكأنهم داخل الغرفة الصفية بعيداً عن لغة المال والتوفير، فما توفره الجامعة من مال تخسره في الجودة والتميز والإبداع وفِي تأهيلهم التأهيل العلمي الذي يستحقونه، ولذلك، لا بدّ من عودة التفاعل في محاضرات التعليم عن بعد بتقليل اعداد الطلبة لكي يتمكن المحاضر من متابعة طلبته وتصحيح واجباتهم التي تصله عبر منصات التعليم الإلكترونية المتاحة؛ فكيف لأستاذ لديه أكثر من 500 طالب في الفصل أن يصحح أوراق الطلبة ومشاركاتهم وامتحاناتهم عن بعد؟ وكيف يقيمهم التقييم الصحيح؟ مطلوب من الجامعات ووزارة التعليم العالي وهيئة الاعتماد أن تعيد النظر في موضوع التعليم عن بعد بحيث تحدد اعداد الطلبة بأرقام اقل من الأرقام المحددة في التعليم الوجاهي؛ لأننا نخشى على النتائج والمخرجات التي قد تنعكس سلبا على مجتمعنا، ولا ننسى أن زيادة اعداد الطلبة التي تطبقها الجامعات اليوم ستؤدي إلى الاستغناء عن مئات الأساتذة في الجامعات الخاصة، وستشجع الجامعات الرسمية على عدم التعيين، فضلا عن الاستغناء عن المحاضرين غير المتفرغين في معظم الجامعات كما حدث في هذا الفصل، وهؤلاء يعيشون على العمل الاضافي ومعظمهم بلا عمل، وبالتالي ستتفاقم البطالة بين الخريجين وحينها لا ينفع الندم.
التعليم عن بعد هو خيار المستقبل للطلبة، له ايجابياته فهو عابر للقارات وتكاليفه قليلة، ويحتاج إلى تحسين بيئته والسيطرة على سلبياته التي اشرنا لبعضها، وهناك سلبيات أخرى يمكن تجاوزها بتوفيرها لأطراف العملية التعليمية خاصة طلبة الطب وطب الاسنان والتخصصات العملية، وهي معيقات موجودة لا يمكن القفز عنها، كضعف البنية التحتية في الجامعات، وعدم توفر أجهزة حوسبة كافية، وضعف شبكة الانترنت لدى الطلبة والأساتذة، وعدم اقبال الطلبة على هذا النمط الجديد في حياتهم التعليمية؛ لأنه افقد دافعيتهم وقلل نشاطهم وإبداعهم وفتح شهيتهم للتسلية والألعاب الإلكترونية، وعزلهم عن أسرهم واقرانهم فضلا عن الشكوى المتكررة في موضوع تقييمهم، والموضوع يطول، والتحديات فيه لا تعد ولا تحصى، ولكن لا بدّ من إعادة النظر في تعليمات التعليم عن بعد بإيجابياته وسلبياته، وخيار المستقبل يقتضي الإعداد له بتشكيل مجالس مختصة للتعليم عن بعد، وهياكل إدارية وتقنية حقيقية داخل الجامعات ووزارة التعليم العالي تضع التعليم عن بعد على طاولة البحث المستمر، ودون ذلك سيكون الأمر صعباً.