اصلاح التعليم العالي وغياب الإرادة الرسمية
أ. د. انيس الخصاونة
14-10-2020 01:43 PM
منذ إكمالي لدراستي العليا في الولايات المتحدة عام 1986 ومزاولتي لمهنة التدريس والإدارة الأكاديمية في عدد من الجامعات الأردنية الرسمية وأنا أسمع نفس العبارات المكررة التي يرددها المسؤولين في التعليم العالي والجامعات حول إصلاح التعليم العالي ، وإزالة الاختلالات التي تشوبه ،وموائمة المدخلات مع حاجات سوق العمل ،والتركيز على الجودة ،وتشجيع التعليم التقني. نعم منذ ثلاثون عاما لم يتحقق أي من هذه الأهداف ولم يتجسد أي من هذه الشعارات البراقة التي تدخل في باب علم الكلام لا في باب الوقائع والأفعال. كثيرون ممن يرفعون هذه الشعارات حفظوا الدرس ولديهم خطابات جاهزة ويتقنون استخدام المصطلحات لكنهم أنفسهم ساهموا بما وصل إليه التعليم العالي حاليا من خلال المواقع الجامعية التي شغلوها على مدار ثلاثة عقود من الزمن فهيهات أن يتحولوا هؤلاء إلى مصلحين حيث لم يسجل التاريخ قط إنجاز الإصلاح بذات المعاول التي تسببت بالعطب والانهيار.
لقد كانت جودة التعليم العالي في الأردن قبل ثلاثون عاما أفضل بكثير من سوية جامعاتنا ومعاهدنا اليوم سواء من حيث التعليم الجامعي أو التقني ناهيك عن أن جامعاتنا كانت أكثر فاعلية في غرس منظومة تربوية وقيمية لدى طلبتنا . أساتذة الجامعات كانوا أكثر جدارة وجدية في ممارسة أدوارهم التعليمية والبحثية والتربوية والطلبة كانوا أكثر استعدا وحرصا على التعلم ، ومنشآت الجامعات ومختبراتها وقاعاتها وتجهيزاتها كانت أفضل حالا وأحسن مواكبة لمتطلبات العلم والتكنولوجيا مع أننا لم يكن لدينا هيئات اعتماد ولا مراكز للجودة ولا صناديق للبحث العلمي لا بل لم يكن لدينا وزارة للتعليم العالي أيضا. أعضاء الهيئات التدريسية الذين يشكلون معاول التغيير كانوا قبل ثلث قرن من الزمان قد تخرجوا من أفضل الجامعات العالمية واليوم نرى حملة الشهادات العليا بالمراسلة من جامعات لم يزوروها على الإطلاق إلا يوم مناقشة رسالة الدكتوراه ناهيك عن انتشار مراكز ومكاتب متخصصة مهمتها استكتاب الرسائل الجامعية والبحوث العلمية المطلوبة لنيل الشهادات العليا. رتب وترقيات أعضاء الهيئات التدريسية في الجامعات قضية أخرى يشوبها ما يشوبها من شراء البحوث والسرقات العلمية واستكتاب أو استئجار زملاء آخرين وخصوصا من جنسيات عربية مهاجرة مقابل تمديد خدماتهم في الجامعات .
وزراء التعليم العالي المتعاقبين على اختلاف نحلهم ومدارسهم ونفوذهم كلهم ينادون بإصلاح التعليم العالي ويؤكدون على جدية الحكومة ووزارة التعليم التي يتربعون عليها في هذا المضمار ولكنهم يأتون ويذهبون ولا يتركون أثرا كبيرا في الإصلاح المنشود. هؤلاء الوزراء وزملائهم من المستوزرين يتنافسون على موقع الوزير وليس على قيادة الإصلاح .وهنا ينبغي أن لا يغيب عن بالنا أن إصلاح التعليم العالي أو حتى التعليم العام أو الصحة لا يتم وينبغي أن لا يتم على يد وزير أو شخص واحد ولا يجوز حتى أن يتم صياغة محتوى واتجاه التغيير في قضايا حيوية في التعليم بما ينسجم مع رؤى ومنظور وفهم وزير معين أو أمين عام. إصلاح التعليم العالي في الأردن على مدار العقود الماضية كان يتم على هذه الشاكلة أي وفقا لمعتقدات الوزير وأمينه العام وبضع أشخاص في مجلس التعليم العالي يتم اختيارهم وفق أسس غير أكاديمية مما يسهل توجيههم للموافقة على رغبات وتصورات الوزير ورؤى بعض الدوائر الرسمية من غير الأكاديمية.
إصلاح التعليم العالي في الجامعات يحتاج إلى تطبيق الإستراتيجية الوطنية للموارد البشرية التي تم تبنيها قبل بضعة سنوات والتي شارك فيها أكثر من 250 شخصية وخبير وطني بشؤون التعليم العالي.الجهد الذي تم تفريغه في تلك الإستراتيجية ينبغي أن لا يضيع سدى ففيها عصارة فكر المشاركين في وضعها من قيادات ومن جهات رسمية وشعبية متعددة ذات علاقة بشأن التعليم العالي في الأردن.
معظم كتب التكليف السامي للحكومات وآخرها كتاب التكليف السامي لحكومة بشر الخصاونة تركز على تطوير التعليم العالي والنهوض بمؤسساته ومع ذلك فإن الإصلاح يشهد خطوات متواضعة جدا في هذا المجال. نعم على القائمين على إصلاح التعليم العالي أن يتساءلوا ويجدوا جوابا لسبب عدم إنجاز إصلاح التعليم العالي على مدار ثلاثون عاما من مسيرة الجامعات ؟كما ينبغي أن ندرك أن مصدر مقاومة إصلاح التعليم العالي جله يأتي من الحكومة ومن القائمين على الجامعات الذين تم تعيينهم على أسس واعتبارات سياسية وأمنية وليست أكاديمية وتعليمية.
أمام وزير التعليم العالي الجديد الدكتور محمد أبو قديس فرصة ذهبية للشروع في خطوات فعلية وملموسة لتنفيذ مضمون الإستراتيجية الوطنية للموارد البشرية أو جزء منها إذا لم تمهله ظروف الحكومة الانتقالية التي شارك فيها قبل أيام فهل يغتنم الفرصة!!!