عن الحظر والصّحة النفسية وأشياء أُخرى
د. ربا زيدان
11-10-2020 12:26 AM
ثمّة أمرٌ مخيفٌ يتعلق بفرض الإقامة الجبرية على الأفراد لفترة طويلة أو مستمرة. أمرٌ لا إنساني يتجاوز قناعة المرء بفاعلية إجراءات كهذه تفرضها الحكومات أو يوصي بها صانعو القرار من عدمها. ثمّة خواءٌ لا يمكن إسكاته يتغلغل كما الفيروسات التي أجبرتنا على ملازمة دواخل جدراننا الاسمنتية، خواءٌ لا يمكن للعقاقير مداواته.
ماذا يحدث لعقولنا في الحجر؟ وكيف يمكن لنا كمخلوقات اجتماعية بالفطرة أن نحافظ على صحتنا النفسية في ظروف غير اعتيادية؟ وهل تلجأ الجهات التي توصي بتقييد الحركة ومنع التجمعات في زمن الأوبئة، بالتوصية مثلا، بعلاجاتٍ ذهنيةٍ ونفسيةٍ مصاحبة كلّ ما أغلقت علينا الأبواب.
هناك روابط مثبتة علمياً ما بين معدلات النشاط البدني والاجتماعي والصحة العقلية، فكلفة الحجر الصحيّ قد تكون عاليةً اقتصاديا كما تذكرّنا حكوماتنا ومؤسسات الأعمال المتضررّة كل يوم، لكن كلفته المعنوية والنفسية لا تقلّ عن ذلك أيضا.
وإن حدثَ وتمكنّا من اتقّاء مرض الجسد، فكيف نقي أنفسنا الإحباط والكآبة والشعور المُداهم بالتعاسة الذي يتسرب من شقوق الذاكرة ودفاتر الصورالتي يبدأ الذهن باستحضارها بشراسة حين ندرك أن ليس بامكاننا الآن أن نمّد جسور التواصل الفعلي مع من نعدّهم - لربّما- التِرياق.
ثمّة أمورٌ شيطانيةٌ تحدث حين نقبع في الحجر. لست بباحثة في علم الأوبئة لأجزم بمدى نجاعة هذا الإجراء من عدمه وبمدى تكلفته علينا كأفراد، لكنّي حين يتعلق الأمر بصحتي الذهنية، أدرك أنّي بحاجة لأن أملك دوماً الخيار. نحن مجبولون على تقديس الإرادة الحرة وبغير هذا ما الذي يرفعنا لمقام تفكيرّي أسمى من غيرنا مما يدبّ على الأرض؟
هذا بالضبط ما ينتزعه منّا الحجر. يسرق خيارنا بأن نمارس انسانيتنا، بأن نحدد على أقل تقدير أين نريد أن نكون في اللحظة التي نريد بها ذلك تماما. ولعلّ هذا أكثر ما يخيفني في فكرة أن يُفرض علينا كأفراد أن نلزم مساحات لا نستطيع مغادرتها: فكرة انعدام الخيار.
لا يبتعد أسلوب الحجر المتكرّر- رغم الحجّة الطبية والوقائية التي قد تبرر اللجوء إليه لفترات قصيرة ومتقطعة - عن محاولات التدجين. من يملك حق أن يحدّد كيف وأين وإلى متى، وأن ينأى بنا عن الآخرين، دون اعتبارات لمواسم حياتنا وطبيعة عوائلنا ومشاريعنا القائمة والمؤجّلة وأعمالنا وطقوس مزاجنا الداخلي.
يجرّدنا الحجرمن متعة أن نمّد أيدينا للآخر، ويحكم سطوة الأجهزة الرقمية على تفاصيل حياتنا اليومية، يرفع معدلات القلق والشعور بالفقد، ويذكرنا بضآلة جبروتنا أمام تيارات الشوق والحنين.