مدى دستورية "وجوب استقالة الموظف العام للترشح لمجلس النواب"
د. جهاد الجراح
10-10-2020 06:14 PM
يذهب الفقه الدستوري إلى القول أن مصطلح الدولة القانونية يعني خضوع الدولة للقانون (بمفهومه الواسع) في جميع مظاهر نشاطها، وإن أولى الناس بهذا الخضوع هو المشرع نفسه وصولا لمبدأ المشروعية والذي يقتضي العمل بقاعدة تدرّج القواعد القانونية، اي ارتباط النظام القانوني في الدولة ارتباطا تسلسليا بما يحقق خضوع القاعدة القانونية الأدنى للقاعدة الأعلى، فلا تخالفها أو تتعارض معها، بل إن كل تشريع يستمد قوته وصحته من مطابقته لقواعد وأحكام التشريع الذي يعلوه وإلا فقد مشروعيته.
ويتربع على قمة الهرم التشريعي الدستور وهو يستمد قوته ومكانته من خطورة وأهمية المسائل التي ينظمها، فهو يضع الأسس التي يقوم عليها نظام الدولة وكيانها السياسي وحقوق وحريات المواطنين الأساسية، ومن هنا جاء المبدأ الذي يطلق عليه "مبدأ سيادة الدستور " أو " مبدأ سمو الدستور " ، والذي يعني أن أية سلطة من سلطات الدولة - بما فيها السلطة التشريعية والتي تعنينا في هذا المقام – لا يمكن لها أن تمارس إلا الاختصاصات التي خولها إياها الدستور وبالحدود التي رسمها ، وبخصوص السلطة التشريعية فإن هذا المبدأ يعني علوّ القواعد الدستورية على ما سواها من القواعد القانونية ، لذا فإن اي قانون تصدره الدولة يجب أن يكون متوافقا مع أحكام الدستور .
وإن خروج السلطة التشريعية على هذا االمبدأ يفقدها سند وجودها والأساس القانوني لاختصاصها ، فهي تمارس وظيفة حددتها النصوص الدستورية وبينت شروطها ومداها ، والخروج السابق ينصرف الى مخالفة النصوص الدستورية سواء بشكل صريح أو ضمني ، وإذا كانت المخالفة الصريحة لا تحتاج إلى بيان ، فإن المخالفة الضمنية هي التي تدق في هذا المقام كما في الحالة التي نحن بصددها.
وإن القول بعكس ذلك يجعل من المشرع العادي مشرعا دستوريا ومن التشريع العادي تشريعا دستوريا بطريق غير مباشر ، ولذا لا بد من ضمانة تكفل احترام مبدأ سمو القواعد الدستورية ، الأمر الذي يستوجب وجود رقابة على أعمال السلطة التشريعية ، ولا تُباشر تلك الرقابة إلا اذا كانت متكئة بدورها على نص دستوري ، الأمر الذي أسنده المشرع الدستوري الأردني في المادة 59 الى المحكمة الدستورية.
وبتطبيق ما سبق على حالتنا هذه نجد أن المشرع الدستوري الأردني نص في المادة 74/3 على وجوب استقالة الوزير الذي ينوي ترشيح نفسه للإنتخابات النيابية قبل ستين يوما على الأقل من تاريخ الانتخاب.
وفي هذا المقام يمكن القول أن حق الترشح هو من الحقوق السياسية التي تثبت للفرد باعتباره مواطنا في دولة معينة ، تخوّله المساهمة في حكم تلك الدولة وبتلك الصفة ، وهو يثبت لكل من تنطبق عليه الشروط التي حددها المشرع الدستوري نفسه من المواطنين ،والموظف العام هو مواطن بطبيعته يحق له ممارسة هذا الحق ويكون مشمولا حكما به إضافة لحقوقه الوظيفية ، وبالتوازي يحرم منه من سلبه المشرع الدستوري هذا الحق ومثال الحالة الأخيرة ما ورد في المادة 75/1 من الدستور الأردني ( حالات عدم الأهلية ) والتي منع بموجبها المشرع الدستوري طائفة من الأشخاص من عضوية مجلس الأمة ، وحاصل القول أن المشرّع الدستوري لا غيره هو الذي يحرم او يقيد حق الترشح ( فالحرمان كما في المادة 75/1 والتقييد كما في المادة 74/3 سالفتي الذكر) ، فإذا لم يرد المنع أو التقييد فإن هذا الحق مطلقا والمطلق يجري على إطلاقه ما لم يرد ما يقيده ، وإذا كان المشرع الدستوري سمح بمقتضى المادة 31 من الدستور للمشرع العادي إصدار القوانين العادية فإن ذلك لا يعني بحال أن يأتي الأخير بأحكام تخالف أو تقيد أو تمنع إرادة المشرع الدستوري .
وإذا كان الدستور قد أحال موضوع تنظيم شروط الترشح الى المشرع العادي ، فإن على الأخير أن لا ينال من الصفة العمومية لهذا الحق ، ذلك أن المشرع العادي في مجال تنظيم الحريات والحقوق الدستورية لا يستقل بخلقها ، بل إن ما يسنه من تشريعات لا تعدو أن تكون كاشفة لهذه الحقوق الدستورية لا منشأة لها .
فحينما أراد المشرع الدستوري تقييد هذا الحق ، كان هذا التقييد استثناءا على الأصل وكان هذا التقييد لطائفة معينة وهم الوزراء ولعلة معينة وهي أن الوزير بصفته هذه يعتبر بحسب المشرع الدستوري الأردني ( المادة 47/1 ) هو المسؤول عن إدارة جميع الشؤون المتعلقة بوزارته ، وكونه يتمتع بهذه السلطة الخطيرة وخشية إساءة استعمالها ، أسبغ المشرع حماية وقائية مسبقة لذلك بأن أوجب على الوزير الذي ينوي الترشح الاستقالة قبل ستين يوما من تاريخ الانتخاب ، وكون ما سبق استثناء وارد على خلاف الأصل ، ومن القواعد المقررة أن الاستثناء يقدّر بقدره ولا يتوسع في تفسيره ولا يقاس عليه ويؤخذ ضمن أضيق الحدود ، فإن ما جاء به المشرع العادي في المادة 11 من قانون الانتخاب بأن وسّع من هذا الاستثناء ومدّه الى موظفي الوزارات والدوائر الحكومية والمؤسسات الرسمية والعامة ..... الخ، يعتبر توسعا غير موفق ولا يستند الى اساس دستوري ، إذ لو أراد المشرع الدستوري التوسع في ذلك لفعل، فإرادته حرة طليقة ولا يجوز للمشرع العادي ان يُقيم نفسه مقام المشرّع الدستوري ، وقد يقول قائل أن العلة واحدة وهي منع الموظف من استغلال سلطته وتوظيفها لصالحه إذا أراد الترشح ، وفي الرد على ذلك يمكن القول أن سلطة الوزير باعتباره المسؤول الأول في الوزارة ويمتلك كافة السلطات في وزارته هي التي دفعت المشرّع الدستوري لهذا التقييد ، ولا تستوي سلطة الوزير مع سلطة الموظف ، كما أن اتحاد العلّة لا يوجب اتحاد الحكم في الاستثناءات والقياس لا يصلح ايضا في هذا المقام.
أما بخصوص المادة 76 من الدستور الأردني والتي حظرت الجمع بين عضوية مجلس الأمة وبين الوظائف العامة ، فإن التفسير السليم لهذه المادة يقضي بأن الجمع لا يتحقق إلا بتحقق الصفتين معا ، أي أن يترشح الموظف العام في حالتنا هذه لعضوية مجلس النواب وينجح نائبا، فعندها فقط لا يجوز الجمع بينهما استنادا لمبدأ الفصل بين السلطات ، وبمعنى آخر فإن عدم جواز الجمع لا يوجب الاستقالة المسبقة للموظف العام، إذ لم تتحقق به صفة النيابة بعد والجمع لا يكون الا بتحقق الصفتين.
أما عن الأثر القانوني الذي يترتب على حظر الجمع بين الصفتين فإنه لا يعدو أن يكون أحد حلّين :
الحل الأول وجوب استقالة الموظف العام من الوظيفة العامة
الحل الثاني الأخذ بما ذهب اليه المشرّع الدستوري المصري في المادة 89 حيث ذهب الى أن المقصود بحظر الجمع بين الصفتين يعني التفرغ لعضوية مجلس الشعب وليس الاستقالة من الوظيفة العامة بل إن الموظف العام الذي يترشح وينجح عضوا في مجلس الشعب يُحتفظ له بوظيفته أو عمله ، حيث نصت المادة السابقة على ما يلي : " يجوز للعاملين في الحكومة وفي القطاع العام أن يرشحوا أنفسهم لعضوية مجلس الشعب ، وفيما عدا الحالات التي يحددها القانون يتفرغ عضو مجلس الشعب لعضوية المجلس ، ويُحتفظ له بوظيفته أو عمله وفقا لأحكام القانون " . بل وزاد المشرّع المصري على ذلك في المادة 24 من قانون مجلس الشعب أن الموظف العام في الحالة السابقة تحتسب مدة عضويته في المعاش أو المكافأة واقتضتاء العلاوات المقررة لوظيفته وعمله الأصلي من الجهة المعيّن بها طوال مدة عضويته وأوجب ترقيته بالأقدمية عند حلول دوره فيها .
كما نصت المادة 26 من قانون مجلس الشعب على عودة الموظف بمجرد انتهاء عضويته الى الوظيفة التي كان يشغلها قبل انتخابه أو التي يكون قد رقّي اليها.
واستثنت المادة 27 من القانون السابق مديرو الجامعات ووكلائهم ( رؤساء الجامعات ونوابهم ) وأعضاء هيئات التدريس والبحوث في الجامعات من شرط التفرغ لعضوية مجلس الشعب .
والأحكام السابقة أخذت بها أيضا اللجنة الوطنية لانتخابات المجلس الوطني الإتحادي الاماراتي الى حد ما .
"سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا "