من أجل بناء الدولة في العراق: "آخر العلاج الكي"!
سهاد طالباني
10-10-2020 02:40 PM
ليس سرا ان المليشيات والمجموعات المسلحة بمختلف مسمياتها تتحكم في الكثير من مقدرات ومفاصل الدولة العراقية، هذا ليس اكتشافا مفاجئا، فالجميع داخل وخارج العراق يدرك هذه الحقيقة، والكثيرون يعيشونها ويتعايشون معها في حياتهم اليومية. وليس سرا أيضا ان معظم هذه المليشيات ان لم يكن جميعها مرتبطة بدول وقوى إقليمية تمدها بالسلاح وتدخل معها في تحالفات أمنية ومالية وسياسية. أما الأكثر خطورة، وهو أيضا أمر معروف، أن جزءا كبيرا من هذه المليشيات قد تمكن من اكتساب صفة رسمية بطريقة او بأخرى، وخاصة تلك المليشيات التي التحقت بمجاميع الحشد الشعبي في فترة الحرب ضد تنظيم داعش الإرهابي، وهو ما مكنها من اكتساب صبغة شبه رسمية، خاصة بعد ان تم اعتبار الحشد الشعبي واحدا من تشكيلات القوات المسلحة العراقية.
بعض المليشيات تسيطر على مساحات من الأرض، وعلى نقاط التفتيش، وعلى بعض المعابر الحدودية والموانئ، وبعضها يتاجر في النفط والسلاح، وأخرى تفرض مبالغ مالية على أصحاب الاعمال الخاصة، والبعض يسيطر على دوائر حكومية، كما دخلت العديد منها في صفقات مشبوهة وعقود بمئات الملايين من الدولارات. وترتبط هذه المليشيات بأحزاب وتشكيلات سياسية تتواجد في مواقع صناعة القرار على مستوى البرلمان والمحافظات، ولهذه التشكيلات ممثلون في الوزارات والمناصب الحكومية، وتمتلك منصات إعلامية قوية.
على ارض الواقع، تشكل هذه الميليشيات دولا داخل الدولة، وتتمتع بنفوذ كبير يفوق أي وصف. ولذلك، لا يمكن ان يكون طرح القضاء على هذه الميليشيات بقرارات حكومية امرا واقعيا، فالحكومة وحدها لا تمتلك القدرة الكاملة على تحويل هذا الطرح الى واقع ملموس، ولذلك على الحكومة العراقية ان تلجأ الى استراتيجية مركبة ومعقدة للتعامل مع هذا الملف المعقد، لأن الحلول الأمنية وحدها لن تكون كافية، وكذلك الامر فيما يتعلق بالحلول الاقتصادية او السياسية. ويجب ان تكون نقطة البداية في التعامل مع ملف الميلشيات هي توفر الإرادة الحقيقة لدى حكومة السيد الكاظمي في التعامل مع هذه الإشكالية، بمعنى ان لا يكون الموضوع مجرد مناورات سياسية تهدف الى تحقيق مكاسب مرحلية سطحية.
استراتيجية الحكومة لا بد ان تبدأ على اكثر من مسار في وقت واحد، فعلى المسار السياسي لا بد من احداث اصلاح حقيقي وجذري في قانون الانتخاب بما يمكن القوى ذات التوجهات الديمقراطية والتي تؤمن بالدولة العراقية أن تصل الى البرلمان لتساهم مستقبلا في عملية صناعة القرار الوطني، وهذا يعني ضرورة اعتماد نظام انتخابي لا يشتت أصوات هذه القوى كما هو الحال حاليا.
على المسار الاقتصادي لا بد ان تبدأ الحكومة بفرض سيطرتها (ولو بشكل تدريجي) على مفاصل الدولة الاقتصادية، والحديث هنا عن السيطرة على المعابر الحدودية والموانئ وقطاع النفط، هذه السيطرة يجب ان تتزامن مع احداث إصلاحات اقتصادية حقيقية تمكن الدولة من الاستفادة من المقدرات الاقتصادية الهائلة في العراق، وتعيد توزيع المكتسبات الاقتصادية لتصب في خزينة الدولة وتنعكس إيجابا على المواطنين من حيث توفير فرص العمل وتحسين الخدمات.
اما على المسار الأمني، وهو الأكثر تعقيدا بطبيعة الحال، فلا بد من إعادة هيكلة أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية بما يضمن ولاءها للدولة فقط، وهذا يتضمن تغييرات في القيادات الأمنية والعسكرية بشكل تدريجي، كذلك لا بد من ادماج العناصر المقاتلة من تشكيلات الحشد الشعبي في القوات المسلحة النظامية وإعادة تأهيلهم عسكريا واداريا، وإلغاء أي تشكيل عسكري أو أمني بعد انتهاء عملية الادماج.
بالتأكيد هذه التغييرات لن تمر بسهولة، وستجد مقاومة كبيرة من المجموعات المسلحة، ولا بد من الاعتراف انه في مرحلة ما قد تحدث مواجهات على الأرض، وهو أمر على الرغم من مرارته الا انه أمر لا مفر منه اذا تحدثنا بواقعية، والمهم هنا ان تختار الدولة توقيت المواجهات، بحيث تجنب العراق والعراقيين خسائر بشرية ومادية لا حاجة لها.
الاستراتيجية الحكومية لا يمكن ان تغفل دور العامل الخارجي، وهنا على الحكومة ان تكون حاسمة في اختيار تحالفاتها، فنحن امام وضع لا يمكن فيه ان تنجح سياسة امساك العصا من المنتصف، وعلى الحكومة ان تدرك انه في لحظة ما لا بد ان تتخذ مواقف حازمة ضد سياسات بعض الدول الداعمة للمليشيات.
في المحصلة، نحن في حالة صراع واضح بين قوى تعيش على الفوضى والانفلات، وأخرى ترغب في بناء دولة حقيقة في العراق، هذا الصراع لا يمكن ان ينتهي بالأمنيات الطيبة والنوايا الحسنة، ولذلك لا بد من دراسة جذور هذا الصراع وفهم ابعاده واثاره جيدا في سبيل الوصول الى حلول حقيقية، وهي بالتأكيد حلول لها ثمن مرتفع ولكنه أيضا ثمن ضروري، ولنتذكر المثل القائل بأن "اخر العلاج الكي"، ولكن فليكن هذا الكي مدروسا حتى لا ينقلب الامر الى ضده.