مسارات: البحر الميت بحر الأسرار
عبدالرحيم العرجان
10-10-2020 11:50 AM
بحر مليءٌ بالأسرار ومختلف عن بحار الكون أجمع، باسمه ومسمياته وتاريخه الغامض، فهو بحر لا موج فيه ولا تغيبُ عنه الشمس، ويقع تحت مستوى بحار وبحيرات العالم، ولا يقل أهمية عن قمة إيفرست فكلامهما تفرّد بجغرافيته، وما حمل لقبه من موت إلا أنه مصدر علاج وإعادة حياة، فيه كثير من الأساطير والصلات التاريخية والدينية.
اخترنا أن يكون المسار هذه المرة مساراً استكشافيًا سهلاً للشاطئ، انطلاقاً من جنوبي مصب وادي الموجب، سرنا فوق أملاحه المتحجرة على طول المدى، مخالفين كل المسارات المعهودة بتكويناتها الجيولوجية؛ فهو المتفرد بهذا البياض اللامتناهي مع أفق الماء المتراكم بطبقاتٍ تعد سنواتها كأنها مؤشر للانحسار عام بعد آخر، بعد أن ضُخ من شريانه المقدس ليروي صحراء النقب مسحوب من مصب بحيرة طبريا تاركين كل ما يخصه لخطر الجفاف والموت التام.
تفردٌ مذهل لبلورات الملح تحجرت في الصيف، فتشكلت منها الزخارف والمنمنمات وبعد ما جفت، وما حملته فيضانات الشتاء من جذوع وأغصان أشجار وصخور مكونة منحوتات، فتجردت من شكلها لتتحول لقطع فنية بعفوية الطبيعة وحرفيتها.
ومع كل خطوة كنا نسمع صوت خشخشة أقدامنا بهذا الرصف العجيب الى أن وصلنا لمنطقة تداخلت فيها الأصوات وأصبحت خطواتنا كأنها تقرع طبول الأرض، فهذا هو الفراغ الخطر الذي حذر منه الدكتور الجيلوجي نجيب ابو كركي بالحفر الانهدامية الناجمة عن ذوبان كتل الملح تحت طبقات التراب بفعل مياه الامطار، مخلفة فجوات يمكنها أن تخسف وتهوي في أي لحظة وهو ما حدث في أكثر من موقع، فبعضها إنهار وابتلع مساكنٌ ومزارع ومنشئات. غادرنا المكان لنتوجه إلى منطقة أخرى أكثر أماناً وصلابة مروراً بين بحيرات، تجمع فيها كثيرٌ من القار والطين الأسود الذي كان الحصول عليه جل اهتمام الفراعنة من جيرانهم الأنباط لتحنيط ملوكهم وعلية القوم من كهنتهم وسر دوام خلود الجمال إلى يومنا هذا وهم من سموه ببحر الزفت والملح.
وقد كان لأنبياء الله -عليهم السلام- فيه قصص، ففي زمن سيدنا عيسى المسيح عرف ببحر الموت، ووثق في خريطة كنيسة مأدبا الفسيفسائية والسُمك يصل إلى مصب نهر الأردن ويعود أدراجه لمائه العذب إشارةً إلى عدم الحياة فيه وقد ذُكر في أكثر من موقع، كما سمي أيضا ببحر زغر مع أن هناك عين قرب أريحا تحمل هذا الاسم وهو اسم ابنة آدم أبو البشرية ويُقال أن نهاية الدجال هناك، وأيضا بحر سادوم وهي إحدى المدينتين التي صب الله غضبه على أهلها من قوم نبيه لوط، وزوجته بتمثالها المتحجر الأسطوري، الشامخ على الجبل بالجانب الشرقي منه، المخالف بتكوينه الصخري وحجمه في أن يكون لبشر، وأنبياء الله موسى ويحيى أيضاً والتي تحمل معها أحداث متنوعة، سوف ندرجها بمسارات منفردة.
ولبحرنا أهمية عالمية ونفتخر به كأعجوبةٍ طبيعية، لم ننساه يوماً في مسارتنا وترحالنا خارج الأردن، فقد كان الشعار المطبوع على ملابسنا حين صعودنا الى أنابورنا في جبال الهمالايا بارتفاع 5416 متر، ورسالتنا عندما قطعنا لبنان سيراً على الأقدام " من الجبل الى المغطس"، وموضوع معرضنا القادم المتمثل ببحر الأسرار بعد أن أعدنا الحياة بتلوين أملاحه وشاطئه حين عرضنا جزء منها بمصر في ملتقى شرم الشيخ الدولي للثقافة والفنون / أوستراكا، ومهرجان عمان عربيا برعاية كريمة من سمو الاميرة ريم العلي، فهو بالحقيقة بحر حي في قلوبنا.
اخذنا استراحتنا في أخفض متحف في العالم وبعد جولة فيه ومشاهدة آثار ومقتنيات أمم سادت ثم بادت، صعدنا الدرج الطويل إلى كهف النبي لوط بقلب الجبل، المشرف وبجانبه دير بيزنطي، عُرف بعين عباطة بني قبل ألف واربعمائة عام، وقد يكون هو الكهف الذي التجأ إليه نبي الله والصالحين بعد خسف المدينتين سادوم وعمورة المعتقد أنهما غَرِقَتا تحت مائه.
وبعد هذه الجولة والجرعة العالية من الأوكسجين والمتفرد أيضا بأعلى نسبة منه في العالم على شواطئه، عدنا أدراجنا بعد أن غربت الشمس التي لا تأبى إلا أن تغيب خلف جبال فلسطين، وهذا تفرد آخر؛ فشمسه لا تغيب في مائه.