"قراءة في قصيدة ثلاث ليال سويا لجريس سماوي"
قصيدة البوح حينما تتكاثف الرؤى في الذات تتجلجل وحدها هناك بعد أن تُرِكَ الشاعر وحيدا ملفوفا بدخان الفكر ولغة الصمت، إنه الإصغاء إلى الروح في لحظة التأزم والثكل وأمامه يمر أسلافه إنه صحبهم ذات زمن كان لهم أخا وصديقا ورفيقا ، إنهم الآن العابرون فرادى إلى أحلامهم الفارغة من كل وفاء، يمرون بصمتهم في الظلام منتصبين يفتشون عن أوهام لكنهم يسيرون لم يلتفت منهم أحد إلى وجع الشاعر الذي كان ذات يوم رفيقا، هم في رحلتهم إلى الفراغ والاستجداء وهو عبر بوابة الأسى إلى محراب الروح إنها رحلته منذ أن ابتعد عنه رفاق الأمس ولم يقفوا عليه وهو يهلك أسى ويتجمل بالكلمة كي يلاقي أباه، يطير إليه بلا أجنحة لكن ببقايا ريش يتعكز عليها في جو السماء ليصل إلى أبيه الوطن .
إنه يحيى المنذور لأبيه زكريا، إنه بشارة الله لمن ناداه خفيّا، وقد وهن منه العظم ولم يبق في الهيكل من الموالي أحد، يتجلى الشاعر في المحراب ليكون الابن البرَّ والزكاة والحنان والوفاء لوالده الوطن، الشاعر مع الوطن يبثه الوجع والغربة والصلاة وتخلّي الرفاق.
يلوذ بالوطن الأب ، يتمسكّان معا يتوحدان، يحلقان لكن السماء بعيدة والمفازات واسعة والرفاق الأسلاف يملأون فضاء الزمان والمكان هم رفاقهما أمسِ وأعداؤهما اليوم، في لحظة التوتر النفسي للابن يتدخل زكريا... الأب... الوطن مخاطبا ابنه الحزين : تنحَ جانبا كي يمر الهواء الخبيث والمدّ المدمر ففي السماء قبة للأنبياء، وحينها يتحول الابن... الشاعر إلى غيم يصلي بلا نجم ، وراهب بلا مصباح، إنها صلاة التبتل لله بنور جوانيٍّ يضيء المسافة بينهما.
التوحد مع الوطن بلا رفاق عابرين في أيام عابرة تلك هي بؤرة القصيدة ومفتاحها المقدس، لذا ، لن يخون أباه، لأنه : الملك والتاج والكبرياء والطحين والقمح والزاد والضوء والنشوة وتمرده على الموت، ولأنه كذلك يلوذ بالصمت ثلاث ليال سويًّا كي يعلن بعدها سرّه.
وبعد،
لقد كثف الشاعر عواطفه من خلال الصور واللغة والإيقاع ليعبر عن اندغامه الصوفي بالوطن متجاوزا أسلافه أو قل رفاقه العابرين إلى متاهات التيه الذين ليسوا أبناء لأبيه - الوطن - إنه الشاعر الذي أعلن تمرده على الواقع متدثرا بالأبوة كيلا يسقط في جُبّ العقوق، إنها القصيدة التي احتضنت الشاعر والوطن معا فكانا الغيم والغيث والحياة في زمن التيه والقحط.
أستاذ الأدب العربي بجامعة مؤتة