لا شيء يبدو أكثر إلحاحا اليوم من بث الطمأنينة بين الناس، فقد أنهكتهم الإجراءات وأتعبتهم الاخبار التي تتناقلها الصحافة ومحطات التلفزة ووسائل التواصل الاجتماعي. الكثير من الناس اصبحوا يطالبون الحكومات ووسائل الاعلام بالتوقف عن بث الخوف والذعر بعد أن ملوا البيانات الصحفية وإطلالات المسؤولين ومصفوفاتهم التي تستند الى آراء واتجاهات وتفسيرات متباينة. الانتقال المفاجئ من التباعد الى اللاتباعد واعلان حالة الحظر الشامل قبيل ارسال الطلبة الى المدارس بيوم قرارات لم تحظ على رضا الناس ولم تساعد الحكومة على كسب التأييد الذي تحتاج له في مثل هذه الظروف.
في كل يوم ومن ساعة لأخرى تتوالى البيانات والتصريحات والتحليلات التي تتحدث عن التفشي وأعداد الوفيات ومستوى الانتشار، وسط هذا السيل من المعلومات المحبطة والمخيفة لا تظهر اي نية لمحاسبة من ارتكبوا اخطاء او قرارات تسببت بأضرار لصحة وسلامة المواطنين. في الاوساط المحلية والعالمية يستغرب الناس حدوث الانتكاسة في الاجراءات التي قادت الجميع الى الثناء على الاجهزة والافتخار بقدراتنا الوطنية وسرعة ومستوى الاستجابة التي جنبت البلاد التورط المبكر في احد اكثر الاوبئة انتشارا وفتكا بالصحة العامة وأثرا على النشاط الانساني ومستوى ونوعية الحياة.
الرسائل المتضاربة المتعلقة بتأرجح القرارات بين التباعد والانفتاح وتشجيع العمل الانتاجي والتطبيق الصارم لإجراءات الوقاية والفحص وتفجر بؤر الانتشار والعدوى واجتياحها لمختلف مناطق المملكة كانت سببا مهما في اضعاف الثقة بالحكومة ونفاد رصيدها لدى الشارع والضجر من اصرار اركانها على تحميل المسؤولية والإلقاء باللوم على المواطن.
اللغة التي يستخدمها الساسة وخبراء الاوبئة والمعلومات حول الوباء وسياسات الحماية واجراءات الرصد والتقصي لم تعد غريبة على المواطن الاردني بعد ان اصبحت لغة يمكن ان تسمعها في المكسيك وكندا والصين كما هي في الاردن ولبنان وهولندا. في جميع بلدان العالم ينتظر الناس بفارغ الصبر الوصول الى مطاعيم فعالة تحصن الافراد وتحد من الانتشار. حتى يحصل ذلك لا تملك السلطات الصحية والقادة السياسيون الا التذكير بأعداد الاصابات اليومية وجمع حاصل الوفيات والتأكيد على اهمية ارتداء القناع وغسل الأيدي وتجنب الاختلاط والتقارب.
على امتداد خريطة العالم تحاول الدول والانظمة الصحية ان تسابق الزمن لتحقيق سبق علمي او اداري يثبت نجاحها في الحد من الاخطار وتقليل الخسائر ووقف التدهور. الكثير من البلدان بات يناضل ويعمل كل ما في وسعه من اجل تسطيح المنحنى الوبائي ووقف التنامي في حالات الاصابة والوفيات الناجمة عنها. في الاردن الذي نجح الخبراء وصناع القرار في محاصرة الوباء في الايام الاولى لانتشاره تبدو القصة مختلفة قليلا عما يحصل في العالم حيث فقدت البلاد حالة السيطرة والتمكن التي تمتعت بها في الايام والاسابيع الاولى لظهور الوباء،
في تلك الايام استقبل الناس الوزراء كالأبطال الذين عادوا للتو من معارك مصيرية ففرح بهم الجمهور وتسابق على استضافتهم الاعلام ولاحقتهم كاميرات المعجبين والتقط بعضهم الصور مع افواج المريدين. ما أن مرت اسابيع حتى تغيرت الاوضاع بعدما فتحت الحدود ونشطت حركة النقل وتراخت بعض المؤسسات في فرض الرقابة واتخاذ الاحتياطات اللازمة لنجد انفسنا في اوضاع يصعب معها حصر كافة البؤر وملاحقة كافة المصابين والمخالطين الامر الذي اعادنا الى المربع الاول وحرمنا من نشوة السيطرة المبكرة على الوباء.
اليوم هناك حاجة الى احداث تغيير جوهري في اسلوب التعامل مع الوباء من حيث تعريفه وتقدير اخطاره والتحذير من الوقوع في براثنه.
الخطاب الجديد الذي يمزج بين التوعية وبث الثقة لا يغفل خطورة الوباء لكنه يعترف بوجوده واخطاره ويوجه الناس للتعامل معه بثقة اكبر وخوف اقل. الخوف والهلع اللذان يسيطران على عقول وقلوب الناس أنتجهما الخطاب الاعلامي الرسمي فأفقد البعض رشدهم ودفع بالبعض الى تكذيب كل ما يقال. اظن وبدون شك اننا نحتاج اليوم الى تسطيح مستوى الخوف والقلق بدرجة لا تقل اهمية عن تسطيح مستوى التفشي والاصابة.
الغد