تجتمع اللجنة العليا الأردنية-السورية المشتركة برئاسة رئيسي حكومتي البلدين في عمان الشهر المقبل بعد أن هدأت حدة التوتر العلني بين العاصمتين خلال الأسابيع الماضية رغم أن عمان ودمشق تقبعان في خندقين سياسيين متقابلين وتشتبكان في خلافات عميقة حول الأمن والحدود وتقاسم المياه.الاجتماع الدوري يأتي بعد مرور عام على زيارة رئيس الوزراء معروف البخيت إلى دمشق للمشاركة في اجتماعات اللجنة العليا المعنية بتعزيز التعاون في مختلف المجالات بما فيها السياحية والاقتصادية والتجارية المتنامية.
لكن اللقاء القادم يكتسب أهمية خاصة فرضتها تصريحات متزايدة من جانب سياسيين عرب وعسكريين إسرائيليين حول احتمالات الحرب أو السلام بين تل أبيب ودمشق في غمرة فوضى تدميرية تجتاح الإقليم.
من المستبعد أن يكسر لقاء عمان القطيعة السياسية بين الأردن وسورية اللذين يحملان رؤية متناقضة حيال غالبية ملفات الإقليم الملتهب في فلسطين والعراق ولبنان فضلا عن تداعيات الملف النووي الإيراني الذي تعطي فيه أمريكا أولوية للخيار الدبلوماسي بالعلن بينما تتسرب معطيات حول تجهيز ضربة عسكرية انتقائية لأهداف داخل إيران- حليفة سورية الإستراتيجية.
في هذا الملف تلتقي سورية مع الأردن, الذي كرر التحذير من أي مغامرة عسكرية أمريكية في المنطقة على غرار التحذيرات الأردنية عشية الحرب على العراق.
كذلك يتفق البلدان- بحسب دبلوماسيين عرب- على عدم إسناد حكومة نوري المالكي "الطائفية" في بغداد- وهو ملف تختلف فيه سورية وإيران- إذ تبيت الأخيرة لتقسيم العراق.
من هذا المنطلق جاءت زيارة وزير خارجية إيران منوشهر متكي الأخيرة إلى دمشق, إذ ذكرها بأهمية دعم حكومة المالكي- حسبما تسرب من الاجتماعات. في هذا الملف مفارقة مضحكة/مبكية, إذ تتفق واشنطن وطهران على إنقاذ حكومة عرجاء آيلة للسقوط في مواجهة سائر دول المنطقة.
في خلفية المشهد علاقة استراتيجية بين دمشق وإيران, زعيمة ما تصفه واشنطن بـ "محور التشدد". هذه الدولة الساعية لإعادة إحياء النفوذ "الصفوي الفارسي" في المنطقة تستعمل حماس الفلسطينية وحزب الله اللبناني على أمل إجهاض أجندة واشنطن وتعطيل مصالح حلفائها العرب. يترافق ذلك مع مسعاها لتخفيف الضغط الدولي المتزايد عليها حيال ملفها النووي وانتزاع اعتراف الغرب بدورها كقوة أساسية في المنطقة.
مقابل ذلك يواجه تكتل ما يسمى بـ"رباعية الاعتدال العربي" - السعودية, مصر, الأردن والإمارات العربية المتحدة - حلفاء أمريكا التقليديين حالة من الشلل في محاولة الخروج بأقل التكاليف في منطقة منهارة تتأرجح بين مناطق نفوذ إيران وإسرائيل.
المسؤولون الأردنيون على قناعة بأن سورية ذهبت بعيدا في تحالفها مع إيران, ولم تعد معنية بتوازنات المعادلة العربية, كما أن هاجسها الأول يكمن في استمرار النظام- عبر تعطيل المحكمة الدولية التي تشكلت بقرار أممي تمهيدا لمحاكمة المشتبه بهم باغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري- حتى لو كان ذلك على حساب تسوية الصراع العربي-الإسرائيلي. هذه المفاضلة داخل المعادلة السياسية السورية تريح ساسة إسرائيل الذين يفضلون التعاطي مع نظام ضعيف في دمشق بدل إزاحته بخلاف رغبات واشنطن.
عودة إلى العلاقة الأردنية-السورية. رغم انجلاء التوتر على مستوى الإعلام, تصر عمّان على تسوية الملفات الأمنية العالقة منذ سنوات كمدخل لتحسين العلاقات السياسية. السوريون في المقابل يشعرون بأن الأردن انخرط في تحالف مع واشنطن, على كل المستويات ولم يعد معنيا بهموم جيرانه العرب. لذا ترفض عمان التحاور مع سورية, التي تعاني من عزلة بقرار أمريكي, حتى تحقق شروط واشنطن الخاصة بلبنان والعراق وفلسطين.
انقطعت اللقاءات على مستوى القمة منذ آخر محادثات بين الزعيمين في مطلع العام 2004 لدى تدشين سد الوحدة. منذ اعتلى الملك العرش عام 1999 وخلف بشار والده في العام التالي, استقبلت دمشق عبد الله الثاني ثلاث مرات فيما زار الأسد عمان مرتين كما تواصلت اللقاءات الجانبية بحرارة في القمم العربية والمنتديات الدولية.
يستبعد أصحاب القرار في الأردن وساسة ودبلوماسيون عرب أن يساهم لقاء عمان المقبل في إحداث انفراج أبعد من ترطيب الأجواء الإعلامية.
في آخر مقابلتين صحفيتين, تحدث الملك عبد الله الثاني بود تجاه سورية كما عبّر عن رغبته في الارتقاء بالعلاقات السياسية إلي مستوى الصلات الاقتصادية. قبل عشرة أيام اتصل الملك ليهنئ الرئيس السوري بشار الأسد بنتائج الاستفتاء على رئاسة الجمهورية. لكن تلك المكالمة لم تخرج عن إطار المجاملات البروتوكولية.
تبع ذلك إشارات ايجابية سورية صوب عمان إذ نشر التلفزيون الرسمي وصحيفة تشرين الحكومية تقارير مليئة بالإطراء وإنجازات الملك بمناسبة عيد الاستقلال.
لكن حتى الآن لا يزال خطاب التشدد والتشكيك سيد الموقف في الاتجاهين منذ أربع سنوات تقريبا بسبب طبيعة التحالفات التي أقامها كل من البلدين بعد سقوط بغداد لحماية مصالحه, حسب ما يرشح من اللقاءات المغلقة.
الأزمة الصامتة تتواصل. ويزيد من خطرها تفاقم الفوضى الإقليمية. هذا قد يشجع البلدين على التفكير بالمصالح وليس بالمشاعر.
عمان تخشى من صيف ساخن شرقا وغربا وشمالا. ذلك قد يتطلب البحث عن خيارات جديدة لحماية المصالح الوطنية العليا. المملكة متخوفة من انهيار الوضع الأمني في فلسطين ولبنان ومن خطر سيطرة أجندة التشدد على المنطقة بعد فشل أمريكا في العراق الذي تقسم فعليا إلى كيانات شيعية وسنية وكردية قد تجمع ذات يوم تحت مظلة فيدرالية غير ثابته.
تشعر عمان أن الوقت يداهم الإدارة الأمريكية التي لم يعد بإمكانها إلا اختيار أحد طريقين في مواجهة إيران التي تسد عليها الطريق في الشرق الأوسط: إما القبول بشراكة كاملة معها أو الحسم العسكري ضدها.
وكلا الاحتمالين سيترك تداعيات عميقة الأثر في المنطقة وتوازناتها والمراكز الإقليمية لدولها الرئيسية وستدفع الرباعية العربية الثمن غاليا بعد سقوط بغداد.
لكنها قد تكون البداية.
فبحسب التحليلات المحلية, لم تنجح الجهود التي بذلتها أمريكا وأوروبا فضلا عن مصر والسعودية أخيرا لإعادة الحرارة إلى العلاقة مع سورية بهدف تحييد طهران ومحاولة إبعاد دمشق عن محورها في محاولة لإنشاء نظام إقليمي جديد تقترب فيه دمشق من الدول العربية المعتدلة.
وثمة تكهنات بأن قلق دمشق من نتائج المحكمة الدولية وراء اقتراح الرئيس السوري بتجديد المفاوضات مع إسرائيل لخشيته من اتهام نظامه بالاغتيال. أولوية الأسد, برأي دبلوماسيين عرب, هي استمرار النظام وعدم التفريط بـ"عظام الرقبة" من المشتبه بهم وليس الدخول في مفاوضات جدية لاستعادة الجولان.
اقتراب سورية من فلك إيران عزلها ليس فقط عن عمان وإنما عن دول عربية أخرى لا سيما السعودية. كما أن أوروبا والولايات المتحدة قننتا الاتصالات مع القيادة السورية. الكل يذكر كيف ألغى وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتينماير إلى دمشق بعد أن صعد الطائرة في مطار عمان, وذلك احتجاجا على خطاب الأسد عقب الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز الماضي.
يرى دبلوماسيون غربيون في عمان أن على سورية تسديد ثمن سياسي لتحسين علاقاتها مع أمريكا وأوروبا ومحيطها العربي قد لا تكون راغبة في دفعه الآن. لذلك قد تنزع سورية لشراء الوقت والانحناء أمام عاصفة المحكمة الدولية من خلال إعادة فتح ملف المفاوضات مع إسرائيل.
فهناك "التزامات دولية" يجب على سورية احترامها إذا أرادت فتح صفحة جديدة مع الجميع. فضلا عن محاولتها إفشال المحكمة الدولية ورفضها الابتعاد عن إيران, لم تأخذ سورية أي إجراءات ملموسة لمنع تسلل المقاتلين إلى العراق وهي تشكك بسياسات دول الاعتدال وتحاول إعاقة عمل لجنة وزارية عربية كلفها مجلس الجامعة بترويج مبادرة السلام العربية مع إسرائيل. وفوق ذلك تزيد سورية من تعقيدات الوضع السياسي والأمني في لبنان.
في أول لقاء جمع وزيرة خارجية الولايات المتحدة كوندوليزا رايس مع نظيرها السوري وليد المعلم على هامش مؤتمر "إنقاذ العراق" في شرم الشيخ الشهر الماضي, سلمت واشنطن سورية لائحة طويلة من المطالب المستحيلة كشروط لتحسين العلاقات بين العاصمتين, بحسب دبلوماسيين ومسؤولين عرب على دراية بأجواء المحادثات.
رشح من بين الشروط السماح للقوات الأمريكية بإقامة نقاط مراقبة وتفتيش داخل الحدود السورية مع العراق وتعقب وضرب مقاتلي القاعدة في المناطق الحدودية والسماح بنشر مراقبين دوليين على الحدود مع لبنان في تعدي واضح على السيادة السورية.
لذا يراهن الاسد على شراء الوقت مع الإدارة الأمريكية الضعيفة لحين الانتخابات الرئاسية عام 2008 ولديه قناعات بأن واشنطن ستضطر مرغمة على تنفيذ توصيات تقرير لجنة بيكر-هاميلتون المتصلة بطلب مساعدة طهران ودمشق لضمان بدء انسحاب قواتها من العراق خلال عام.
ولم تعد بعد الروح للعلاقات السورية مع السعودية ومصر, أضلاع المثلث الإقليمي التقليدي. تلك العلاقات كانت توترت بعد تصريحات الأسد عن "أنصاف الرجال".
وبينما سوّقت سورية اللقاء الأول على هامش قمة الرياض قبل ثلاثة أشهر بين الملك عبد الله بن عبد العزيز والرئيس السوري على انه اختراق وبداية لعلاقات جديدة بين الطرفين, حمّل المضيف السعودي سورية مسؤولية عدم حلحلة الوضع في لبنان وفي فلسطين.
يرى دبلوماسيون عرب بأن سياسة "تقبيل اللحى" لم تعد تنطلي على احد في العالم العربي.
ففي عالم السياسة والمصالح الإستراتيجية لا يوجد مثاليات ومواقف اخلاقية صارمة.
عمان تقف الآن أمام زلزال سياسي إقليمي وسط مصالح متغيره.
وهي تتحسب لنتائج فشل استئناف مسيرة السلام المفترض أن تفضي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة وإمكانية حدوث انقلاب في العلاقات بين أمريكا وإسرائيل من جهة وكل من إيران وسورية خدمة لمصالح جديدة.
من مصلحة الاردن تأمين حدوده الشمالية وتعزيز عمقه الاستراتيجي العربي الذي توفره مظلة الرباعية العربية. تعديل المسار في علاقة عمان-دمشق قد يأتي من خلال الاتكاء على نقاط تمثل رؤية مشتركة حيال قضايا المنطقة.
لا بد من تنازلات متبادلة بين عمان ودمشق والخروج من الدائرة الضيقة التي فرضتها أمريكا على حراك حلفائها العرب.