توقّف المحللون السياسيون مطولا أمام تهافت النصائح الأوروبية والأمريكية من أجل إحداث إصلاحات جذرية شاملة في الأردن, الذي يدور في حلقة مفرغة منذ سنوات بين نوازع التحديث وقوى الشد العكسي المتمسكة بسياسة الأمر الواقع حفاظا على مكتسباتها السياسية والاقتصادية.
آخر تلك النصائح جاءت بوضوح, الأسبوع الماضي حين هبط على الأردن نائب الرئيس الأمريكي جون بايدن ورئيس البرلمان الأوروبي المحافظ يرزي بوزك, رئيس وزراء بولندا الأسبق.
ما يرشح من معلومات عن هاتين الزيارتين الاستثنائيتين يشي بحجم اهتمام الدول المانحة غير المسبوق بإعادة إحياء الحياة التشريعية على أسس ديمقراطية وقانون انتخاب عادل, في بلد يعد من أقرب حلفاء واشنطن وسائر الغرب.
استغل الرجلان وجودهما في الأردن ل¯ "يدردشا" مع ما سميت بمنظمات المجتمع المدني بحثا عن أفكارهم وتوقعاتهم حيال العملية الانتخابية المقرر إجراؤها أواخر العام.
بوزك كان أقل تحفظا من بايدن. إذ نقل عن بوزك خلال لقائه مع ممثلي منظمات المجتمع المدني تأكيده على ضرورة ربط المساعدات بالتقدم على مسار الإصلاح السياسي مع أن اللقاءات تمت بعلم وزارة الخارجية, بحسب دبلوماسيين أمريكيين وأوروبيين, وأعلن عن إجرائها عبر بيانات صحافية مقتضبة نشرتها البعثات المعنية, إلا أنها أثارت حفيظة ساسة ونشطاء رأوا فيها تدخلا سافرا في الشؤون الداخلية ومحاولة لفرض إصلاحات, تقوم في جوهرها على مبدأ التوطين السياسي مقابل تنازل اللاجئين عن حقهم في العودة والتعويض. تصب هذه المخططات, بحسب شكوك المعارضين, في مصلحة أمن إسرائيل ومستقبلها كدولة يهودية على حساب هوية الأردن الحديث.
ولا يقلل من تلك المخاوف تأكيدات الأوروبيين والأمريكيين على التزامهم بأمن الأردن واستقراره من خلال حل الدولتين, فلسطين وإسرائيل, وهو مطلب استراتيجي.
حراك بايدن جلب ردود فعل سلبية, بسبب مخاوف أردنيين من نوايا واشنطن.
لكن قلة انتبهت لمضامين الرسائل التي أوصلها بوزك للقيادات الأردنية. وأيضا فحوى حواره مع ثمانية ممثلين عن منظمات مجتمع مدني على هامش مشاركته في الدورة السابعة للجمعية البرلمانية الأورو-متوسطية.
هذا السياسي المخضرم كان مباشرا في تبيان محاسن الإصلاح والديمقراطية, مستحضرا ما وصفها بتجربة شخصية دفع ثمنها مؤقتا بعد أن اختير رئيسا لحكومة بولندا عام ,1997 قبل أن تطيح صناديق الاقتراع بتحالفه اليميني عام ,2001 بسبب أجندته الإشكالية أنذاك, انقسامات حزبية وفضائح فساد هزّت حكومته. وقتها اعتزل المهندس الكيميائي العمل السياسي وعاد للتدريس قبل أن يعتلي مسرح السياسة مجددا في معركة انتخابات البرلمان الأوروبي عام ,2004 ومرة ثانية عام .2009 وهكذا حصد أعلى الأصوات في دائرته داخل بولندا, مستندا إلى سمعته الشخصية, علاقاته المباشرة مع قواعده وإرث سياسي, مكن بلاده من قطف ثمار تجلّت بزيادة معدلات الاستثمارات الخارجية وانخفاض البطالة, فضلا عن تأسيس علاقة تشاركية بين الحكومة والمجتمع المدني لتمرير قرارات ديمقراطية.
حصد بوزك 555 صوتا من 785 في البرلمان الأوروبي, فأضحى أول بولندي يرئس الجهاز الرقابي والتشريعي لأكبر تكتل سياسي واقتصادي عالمي.
في لقاءاته الخاصة والعامة تحدّث بوزك عن ضرورة المضي قدما في "الإصلاح السياسي, تعزيز دور المجتمع المدني والأحزاب التي تستطيع أن توفر العون للحكومة". كما دعا إلى "توسيع هوامش حرية الإعلام لمأسسة الحاكمية الرشيدة في دولة المواطنة والمساواة".
وفي اجتماع في الديوان الملكي, نقل عن بوزك قوله: "لا تخافوا من الإصلاح ومن التغيير الذي قد يؤدي إلى إغضاب البعض وخلق ردود فعل سلبية لفترة من الوقت". ثم أردف قائلا: "لكن بعدها سيرى الشعب فوائد التغيير للمصلحة الوطنية, لمستقبلهم ومستقبل الأجيال... وسيحصد من قام بها شعبية وشرعية كبيرة, وسيحظى بدعم وشكر وعرفان الغالبية المؤيدة".
ثم تحدث عن تجربته في بولندا الخارجة من حكم شيوعي شمولي. "غضب الناس من الإصلاحات التي آمنت بها ودفعت بها. خسرت الانتخابات بعد أن تراجعت شعبية حكومتي كثيرا. استقلت من رئاسة الحزب. لكن الناس رأوا ولمسوا أن ما قمنا به كان صحيحا وضروريا لخدمة المصلحة الوطنية", حسبما أضاف مذكرا بأن "الناس أعادوني بأعلى الأصوات المحلية في تاريخ بولندا الحديث إلى البرلمان الأوروبي. وأنا اليوم أجلس على سدة هذه المؤسسة الأوروبية الحيوية".
أحد اثنين هندسا الأجندة الاقتصادية لبولندا, فتح بوزك, من خلال أربعة إصلاحات اقتصادية وسياسية, الطريق صوب انضمام بولندا إلى الاتحاد عام .2004 تلك الإصلاحات الإشكالية تمحورت حول تقسيمات إدارية مختلفة وحكم محلي جديد لبولندا, إصلاح نظام الضمان الاجتماعي, تحديث نظام الرعاية الصحية وقطاع التعليم.
خلال حواراته في عمّان, ألمح بوزك إلى بعض أوجه التقصير والتراجع في مسار الديمقراطية الأردنية, لكنّه لم ينكر حصول تقدم في هذا الاتجاه.
"زمّار الحي لا يطرب"
كلام السياسي الأوروبي لا يختلف كثيرا عما يسمعه صنّاع القرار - وبوتيرة متنامية من ساسة, حزبيين, نشطاء, نواب, أعيان وكتّاب رأي. فهؤلاء المكتوون بنار المراوحة والتراجع يرون في مأسسة إصلاحات سياسية توافقية تدريجية نابعة من الداخل أولوية وطنية ستعزز من تنافسية الأردن على مستوى الإقليم وسائر العالم.
لكن نسمع وعودا ولا نرى طحنا.
ذلك لا يتم إلا عبر انفتاح الحكومة على مكونات المجتمع المدني كافة لشرح حدود التغيير المنشود ضمن المصلحة لوطنية, بما في ذلك التوافق على قانون انتخاب وبناء علاقة تفاعلية تنقل البلاد إلى بر الأمان وسط أمواج تهدر في هياكل الاقتصاد والسياسة. فبناء الجسور ضروري لإنهاء حالة الإحباط والتذمر لدى الغالبية التي تبحث عن بوصلة واضحة, بما يحول دون لجوء البعض لبث الشكوى لدى جهات خارجية.
فالسبيل الوحيد لاجتياز الأزمة يكمن في تفاهم داخلي, صادق حول قانون انتخاب لقطع الطريق أمام أي حلول خارجية ترتبط بمصالح المانحين, والسماح للمركز الوطني لحقوق الإنسان بمراقبة الانتخابات قبل أن تطالب منظمات مجتمع مدني برقابة خارجية.
آن الأوان لأن يتوافق الأردن حول أجندة وطن بعيدا عن المصالح الفئوية الضيقة, وأن يدرك المسؤولون بأن ثمن المساعدات لن يكون من دون مقابل.0
العرب اليوم