فارس العمل الانساني يترجل
محمد أحمد القطاونة
29-09-2020 11:28 PM
الكويت جسر محبة ورسول سلام، وواحة استقرار سياسي واقتصادي، ونظام حكم يتعمق ايمانه كل يوم بمعنى الامن والعمل العربي المشترك، النظام الذي يصون العدل ويحمي الحق ويسعى للخير، والديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الانسان، وتمتع الجميع بالثروة كانت اسس الحكم في الكويت.
على هذه المبادئ والقيم اينعت حياة الامير الراحل الشيخ صباح الاحمد الجابر الصباح وهو النجل الرابع للشيخ احمد الجابر الصباح، والحاكم الخامس عشر من الصباح، وخامس امير لدولة الكويت منذ عهد الاستقلال.
عُرف عنه الدماثة والمرونة، وعُرف عنه ايضاً الكرم والاريحية في التعامل مع الناس، قائد لعب دوراً سياسياً في السياسة الدولية، يتسم بفكر صائب ورؤى نافذة وعزيمة قوية اهلته ليكون جديراً بتحمل تبعات المرحلة ومسؤولياتها الوطنية.
ولد الشيخ صباح الاحمد الجابر الصباح في الكويت عام 1929، وتلقى تعليمه في المدرسة المباركية، والاحمدية، ونظرا لان التعليم في الكويت آنذاك لم تكن قد اكتملت مراحله المتقدمة، فقد اتاح له والده الشيخ احمد الجابر الصباح الفرصة ان يتتلمذ على يد عدد من الاساتذة المتخصصين في مجالات مختلفة ومتعددة من المعرفة، حيث قام بإيفاده إلى بعض الدول للدراسة واكتساب الخبرات والمهارات السياسية وليتعرّف كذلك على طبيعة الأنظمة والعمل والإدارة في عدد من الدول الأوروبية والآسيوية.
واكب الراحل ادارة والده مع الاحداث والمتغيرات الداخلية، اذ كان العالم آنذاك حافلاً باحداث سياسية وعسكرية عظيمة، ساعدته على فهم السياسة والمتغيرات الدولية بشكل افضل، وخلقت لديه الوعي السياسي والاجتماعي ومكنته من الالمام بالشأن العام ان كان ذلك في الكويت او المحيط العربي والعالمي، مما ساهم بشكل واضح ليكون احد اعمدة الحكم الرئيسية في دولة الكويت.
بدأ حياته العملية في تموز عام 1954، عضواً في اللجنة التنفيذية العليا – بمثابة مجلس الوزراء في الوقت الحالي- وعُهد لهذه اللجنة مهمة تنظيم دوائر الدولة ووضع خطط عملها ومتابعة التخطيط فيها، ثم عُين في العام 1955 رئيساً لدائرة الشؤون الاجتماعية والعمل حيث ابدى اهتمامًا بالمشاريع الاجتماعية، وكان يؤيد وضع القواعد التنظيمية من أجل إفساح فرص العمل الملائمة للمواطنين، وكان يساعد على استقرار العلاقة بين العمال وأصحاب العمل وتنظيم الهجرات الأجنبية التي تدفقت على الكويت بعد استخراج النفط.
قام باستحداث مراكز التدريب الفني والمهني للفتيات ورعاية الطفولة والأمومة والمسنين وذوي الاحتياجات الخاصة وتشجيع قيام الجمعيات النسائية ورعاية الشباب وإعدادهم نفسيًا واجتماعيًا وبدنياً والعناية بالمسرح، وأنشأ الأندية الرياضية، إضافة إلى إنشائه أوّل مركز لرعاية الفنون الشعبية في الكويت.
عُين في العام 1956 عضوًا في الهيئة التنظيمية للمجلس الأعلى، وهو المجلس الذي كان يساعد أمير الكويت في إدارة شؤون الحكم في البلاد. وفي عام 1957 أضيفت إلى مهامه رئاسة "دائرة المطبوعات والنشر" حيث تم إصدار الجريدة الرسمية للكويت تحت اسم "الكويت اليوم" لتسجيل كافة الوقائع الرسمية، وفي رئاسته لدائرة المطبوعات والنشر تم إصدار قانون المطبوعات والنشر الذي شجع الصحافة السياسية وكفل حريتها في حدود القانون.
اهتم سموه بإحياء التراث العربي وإعادة نشر الكتب والمخطوطات العربية القديمة، وعمل على ربط بلده في بواكير عمله السياسي بنشر الثقافة الكويتية في المحيط العربي اضافة الى ربط الوعي المجتمعي الكويتي بالوعي المجتمعي العربي، وظهر هذا جليّا في التوجّهات التي كانت تحكم مطبوعات الكويت، وكذلك ثبت هذا التوجّه بعد أن تولّى سموه وزارة الارشاد والانباء في العام 1962 –وزارة الإعلام- في أوّل وزارة تتشكّل في تاريخ الكويت.
وبصفته عضواً في الحكومة، أصبح عضواً في "المجلس التأسيسي" الذي باشر بعملية وضع الدستور، حيث قاد عملية دعم وتطوير وسائل الإعلام في الكويت، وبناء على ذلك ضمّت الوزارة دار الإذاعة والتلفزيون والسينما والمسرح وقطاع السياحة.
وفي العام 1963 عين صباح الاحمد الصباح وزيراً للخارجية كثاني وزير خارجية في تاريخ دولة الكويت، ويُعد المهندس الاستراتيجي للدبلوماسية الكويتية العربية والباني الحقيقي لها، واستمر وزيرا للخارجية طيلة اربعة عقود من الزمن، شغل بعضاً من الوزارات بالوكالة كوزارة الاعلام التي شغلها اربع مرات، ووزيرا لوزارة المالية والنفط بالوكالة، ووزيراً للداخلية بالوكالة بالاضافة الى وزارة الخارجية التي شغلها منذ التشكيل الوزاري الثاني في الكويت ما بعد الاستقلال، وبحكم منصبه كوزير أصبح عضواً في مجلس الأمة.
عُين سموه في التشكيل الوزاري الخامس عشر في العام 1978 نائبا لرئيس مجلس الوزراء بالإضافة إلى كونه وزيرا للخارجية، واستمر في هذا المنصب حتى العام 1991، ثم عُين في الوزارة السادسة عشر في تاريخ الكويت نائباً اول لرئيس مجلس الوزراء ووزيراً للخارجية وذلك في العام 1992 وبقي في هذه المناصب حتى العام 2003 عندما عُين رئيساً للوزراء، حيث قام بتشكيل الوزارة الحادية والعشرين في تاريخ الكويت حيث تضمنت الحكومة، خمسة عشرة وزيرا، بينهم نائب واحد في مجلس الأمة، وأدت الوزارة اليمين الدستورية أمام أمير البلاد آنذاك الشيخ جابر الأحمد الصباح -رحمه الله- في اليوم التالي، وقد أجرى أكثر من تعديل وزاري على حكومته، حيث تم في عهده توزير اول امراة في تاريخ دولة الكويت، واستمر بشغل منصب رئاسة مجلس الوزارء الى ان نودي به اميراً للبلاد في كانون الثاني من العام 2006 خلفاً للامير سعد العبد الله السالم الصباح الذي تنازل عن الحكم بسبب احواله الصحية.
يعتبر الشيخ صباح الاحمد الصباح الامير الثالث الذي يؤدي اليمين الدستورية امام مجلس الامة في تاريخ الكويت، وقد توجت سياسته الاصلاحية بدخول المرأة لاول مرة عضواً في مجلس الامة في ثالث انتخابات نيابية تجرى في عهده وقد سمح للمراة بدخول السلك العسكري واعاد التجنيد الالزامي في الكويت.
كرَّمته الامم المتحدة في العام 2014 بلقب "قائد للعمل الإنساني" وسُمِّيَت الكويتُ "مركزًا للعمل الإنساني" تقديرًا من المنظمة الدولية للجهود الذي بذلها الأمير وبذلتها الكويت خدمة للإنسانية، ولُقِّب بـ"شيخ الدبلوماسيين العرب والعالم" و"عميد الدبلوماسية العربية والكويتية"، اتبع في عهده سياسة إصلاحية فترسَّخت الحياة الديمقراطية وزادت الحريّات الإعلامية، وانتشرت الصحف والمنابر الإعلامية وشهدت الكويت في عهده نهضة تنموية شملت مختلف المجالات، تنفيذًا لتطلّعاته بتحويل الكويت إلى مركز مالي وتجاري عالمي وتسريع عجلة الاقتصاد، وتعزيز دور القطاع الخاص في دعم التنمية الاقتصادية، حيث كانت القيادة السياسية تهدف لعودة الكويت كما كانت "عروس الخليج" كما كانت توصف، وقد تم إنجاز العديد من المشاريع العملاقة التي ترتبط بمختلف القطاعات الخدمية في الكويت.
حرص رحمه الله على تنظيم وقته، كي يجد الوقت الكافي لممارسة كل ما يتعلق بحياته الوظيفية والسياسية، وفي هذا يقول: "الوقت متاح لمن يعرف كيف ينظمه، وقد أدركت ذلك منذ وقت طويل ونجحت في حساب الوقت إلى أبعد الحدود".
لا يحمل معه من الكتب في سفره سوى القرآن الكريم الذي يحرص دائمًا على أن يكون معه في حقيبته اليدوية الشخصية، يعشفق البحر، ويعشق الصيد ويرى في البحر امتداد تاريخي للكويتيين كونه مصدر الرزق الاساسي لهم قبل النفط.
سعى سموه الى التضامن مع قضية الشعب العربي الفلسطيني ودعم نضاله وتضحياته من اجل العودة وتقرير المصير ودعم القضية الفلسطينية في المحافل الدولية.
وعُرف عن سموه بسعيه الدؤوب في تقديم المساعدات للاشقاء والاصدقاء وفق مبادئ الاخوة العربية والاسلامية والمبادئ الانسانية وبما يخدم اهداف التضامن العربي والكافل الاسلامي والانساني ويخفف من المعاناة الانسانية للشعوب الشقيقة والصديقة.
لقد اكتسب سموه من التجارب في بداية شبابه الشيء الكثير وعلمته الايام والسنون ما شاء لها ان تعلمه فاتسعت درايته وازداد عطاؤه الذي لا ينضب.
بوفاة الشيخ صباح الاحمد الجابر الصباح تفقد الامة العربية والاسلامية زعيماً حكيماً وقائداً استثنائياً واميرا للانسانية والاخلاق، كرس حياته لخدمة وطنه وامته ولم يتوان في مساعيه الخيرة عن بذل كل جهد لوحدة الصف العربي.