عندما نطقت المقولات النازية بعبارة: «كلما سمعت كلمة مثقف (أو ثقافة) تحسّستُ مسدسي»، كان ثمة إدراك واضح، واعتراف جليّ بالتأثير الهائل للمثقف، وقدرته على تغيير الأفكار، وتثوير الناس وشحن الهمم. ولو أن الأمر ليس كذلك، لما كان الشعراء في أزمنة سابقة لسانَ حال قبائلهم، ووزراءَ إعلامها، والناطقين باسمها، والذائدين عن حِياضها.
بيْد أنّ الأزمنة، كما كلّ شيء، تبدّلت وتلاحقت الحِقب، وانزوى المثقفون في عزلاتهم، ولم يعودوا يمارسون أدوارهم التي كانوا طلائعها في المنعطفات الحاسمة من حياة شعوبهم. فبعد أن كانوا النسغَ الحيّ للثورات، أصبحوا في خلفية المشهد، وصار التنظير (وغالباً الذي بلا طائل) شغلَهم الشاغل وتآكلت الأفكار الكبرى، وانطفأت الأحلام.
وبسبب خفوت الحضور أضحى المثقفون، جلُّهم، أمام خيارين أساسيين: إما الانسحاب من المشهد والاعتراف بالهزيمة، وبلا جدوى الكتابة، وبطلان الحماسة الثورية سريعة الذبول، وإما البقاء في دائرة الضوء، والارتهان لشروطها الباهظة، والرضى بإكراهاتها، على ما يستبطنه هذا الرضا «المفخّخ» من ضرورة الانقلاب على ماضي الشخص الذاتي والموضوعي، والانسحاب مما كان عليه.
وبعضهم استساغ هذه اللعبة الخطرة، فغيّر جلده تماماً، حتى إنه باع نفسه للشيطان!
الأخطر لدى الفريق الثاني أن بعضهم استغرق في دوره الجديد، حتى مضى يقنع نفسه بأن الواقعية تقتضي تجديد الخطاب، وأنّ الأفكار ترفض التحنيط والتقديس الزائف. وما كان ذلك سوى حيلة تبريرية مكشوفة، ولكن ما قيمة هؤلاء بدون قوة التبرير؟!
بالتبرير، والمثقفون عبارة عن ترسانة من الأفكار والكلمات والمترادفات والرموز والصور التشبيهية والتعبيرية والحيل اللغوية، تمكّن المثقف، المنشقّ عن إرثه المضيء، أن يتحوّل إلى ما شاءت له المؤسسة الراعية.
صار قماشة فضفاضة يمكن أن تخيط منها ما شئت، وصار بذكائه -والمثقفون أذكياء ودهاة- يحوّل الليل إلى نهار، زاعماً أن العتمة ليست سوى غمامة سوداء على النافذة، وأنّ الأوطان جغرافيا سائلة، وأنّ ما تراه شراً مطلقاً هو في الحقيقة خير مطلق، وهكذا حتى آخر المتوالية من القلب المتقن للحقائق وتزييف الوعي.
الناس، في سوادهم الأعظم، يسمعون هذا الكلام وربما يعتنقونه ومن ثم يروّجونه، مستخدمين قوة التبرير ذاتها، منطلقين من أنّ الحقائق بطبيعتها نسبية. وتشتد خطورة ذلك إذا كان المثقف يحمل درجة علمية، أو يشغل موقعاً بارزاً، أو يتحصّن وراء صفة دينية أو أيديولوجية.
قد يبرر المثقفُ، المستقيل من انتسابه العضويّ لأشواق الناس، التوحشَ والعنف واختطاف الدين لمصلحة فئة أقلوية تزعم النطق بلسان السماء. وقد رأينا هؤلاء فيما سبق يسوّغون ما لا يستقيم مع العقل والمنطق، بل يستقيم فقط مع من يموّل ومن يدفع أكثر.
المثقف المسدس يطلق النار على قدميه، قبل أن يطلقها على الأهداف التي رسمت له. ومن يعتقد أنّ ذاكرة الناس كذاكرة السمكة مخطئ ولا يقرأ، بعمق، في كتاب التاريخ.
المثقفون الخالدون هم وحدهم الذين انحازوا للقيم النبيلة، ووقفوا مع المقهورين، ودشّنوا مواسم الفرح، ورفعوا أحلامهم وأحلام شعوبهم فوق أعناق الرياح. الحرف رصاصة إن لم توجّه لتحقيق الخير ارتدّت إلى صدر صاحبها، وقتلته رمزياً. وبالرمز يتهامس العشاق وحراس الذاكرة.
ورغم بؤس الحال، وقتامة المشهد، والانسداد شبه الكلي في الآفاق، فإننا لا نعدم وجود مثقفين قابضين على الجمر، لائذين بالصمت، يفضّلون أن يغيّروا المنكر بقلوبهم، ويأبون أن يصفّقوا للباطل، وذلك أضعف الإيمان.
البيان