فقد مجتمعنا «شهية» الانشغال برحيل الحكومات وترحيل البرلمانات، وافتقاد الشهية ليس دليلاً – بالضرورة- على غياب العافية وانما هو مزيج من «الاحتجاج» الصامت والوعي المتصاعد، ذلك ان تجربة الناس مع «التغيير» ولّدت لديهم مزيداً من الخيبات لدرجة أصبحوا فيها يترحمون على الماضي الجميل حتى لو سبق وشيعوه بمطالبات الرحيل.
في المقابل من المؤكد أن لدى مجتمعنا رغبة «صامتة» في رؤية صورة جديدة للبلد تشمل تغييراً حقيقياً في السياسيات والاشخاص، في التفكير والاداء، فالدولة - اية دولة - تحتاج بعد فترة من الانجاز الى ما يشبه المراجعة والتقويم، إن شئت الى جردة حسابات تتوقف امامها وتوازن بين ما حققته من انجازات أو ما وقعت فيه من قصور وسلبيات، وفي تاريخ بلدنا على امتداد تجربته حصل ذلك وأكثر، وكان الحساب - بالطبع - مفيدا، فقد استبدلت سياسات بأخرى.. وتداول أشخاص مواقع آخرين، وبدأت ديناميكية الحكم تواصل مسيرتها بوسائل جديدة، وبخطى اكثر استبصارا للواقع ومتغيراته، وللمستقبل وما يحتاجه من رؤى جديدة.
الآن، بعد ان حسم استحقاق رحيل السلطتين (الحكومة والبرلمان) حان وقت المراجعة، مراجعة خطط الاصلاح والتغيير التي شهدها الناس وما زالوا ينتظرون اكتمالها، ومراجعة العلاقات الداخلية بين مؤسساتنا الوطنية وبينها وبين المجتمع، ومراجعة (أداء المواقع) ومدى قدرتها على النهوض بمسؤولياتها، وارتقائها الى مستوى يليق تضحيات الاردنيين، ومراجعة الملفات المهمة، ابتداء من ملف الاقتصاد الى ملف الاصلاحات السياسية وتشريعاتها المفترضة، الى ملف (النخب) السياسية وما تمثله من قوى ومصالح، والاهم مراجعة اداء الحكومات وكيفية تشكيلها ودورها وقدرتها على التناغم مع مصالح الدولة والتحديات والأخطار التي تواجهنا .
مع الاردنيين كل الحق حين يقولون ان حكوماتهم خذلتهم، وان نوابهم استقالوا من وظيفتهم التمثيلية، وبأن «الحل»هو الحل، لا اريد ان اتحدث عما فعلته الحكومات بنا، هذا لم يعد خافيا على احد، يكفي انه من المفارقات في بلدنا ان الناس تطالب بسرعة تنحية «نوابهم» الذين انتخبوهم، وترى في اليوم الذي يتم فيه ذلك عيدا وطنيا، لكن يبقى السؤال: لماذا حدث ذلك؟ هل يتحمل النواب مسؤولية عدم رضى المواطنين وخيبتهم في الاداء ام ان هؤلاء النواب - كالمواطنين تماما - ضحايا لقانون انتخاب افرز افضل ما يمكن (!)، وضحايا ايضا لظروف اجتماعية وسياسية لم تترك لهم مجالا لتحسين صورتهم او الارتقاء الى طموحات الناس وحاجاتهم، ام انهم يتحملون المسؤولية كلها، لانهم ( اغلبهم : ادق) قبلوا ممارسة دور «الكومبارس» وتعمدوا الانخراط في اللعبة..؟
اذا اردنا ان نتجاوز «انصاف الحلول « لا بد ان نعترف ان عملية المراجعة التي لا يجوز ان تختزل في اداء الحكومة الاخيرة او مجلس النواب المنحل فقط، وانما لا بد ان تتجاوزه الى قراءة مسيرة الديمقراطية في بلادنا منذ نحو عشرين عاما على الاقل: هل تقدمت ام تراجعت؟ ولماذا؟ والى دراسة تجربة الحكومات ايضا: كيف تشكلت وبأي وسيلة تعاملت مع الناس وماذا انجزت، والى معرفة التشريعات التي انتجت المجالس النيابية (قانون الانتخاب) والتشريعات التي تتيح للمواطن التعبير عن رأيه والتأثير في مجمل الحياة السياسية، والى رصد الحراك الاجتماعي الذي طرأ على مجتمعنا، سواء على صعيد القيم، او التعليم او العمل او العزوف عن المشاركة او الانسحاب من السياسة .. او غيرها.
الدستور