الحديث عن تمتين وتحصين الجبهة الداخلية وما نسمعه من مفردات موازية، لم تعد تتعدى أكثر من كونها مصفوفات لغوية أفرغت من معناها وتطفو على السطح لدى وقوع خطب معين أو مستجد إقليمي بات يلوح في الأفق.
واقتصرت الحكومات في تعاطيها مع هذا المفهوم على الجانب السياسي دون أن تضع في حسبانها إقرار سياسات من شأنها دعم وصون هذه الجبهة من غير حاجة للتغني بها وإطلاق التصريحات الرنانة لتصبح ركيزة أساسية في بناء المكوّن الوطني.
وقد قُزم المفهوم الشائع الداعي إلى تمتين جبهتنا وبات يستخدم من باب الفزعة ضد أعداء مفترضين أو حقيقيين في الخارج، فرضته سيناريوهات دولية لا زالت أسبابها قائمة، ونسينا أو تناسينا أن على الحكومات أن تنظر بعين الجدية بشكل مواز إلى ضرورة العمل والانقلاب على سياساتها الداخلية، وأن تفكر بجدية في تعزيز هذه الجبهة بتبني حزمة إجراءات إصلاحية حقيقية تضع المواطن على سلم أولوياتها.
تمتين جبهتنا يقتضي أولا إجراءات عملية من جانب الحكومة في التصدي لملفات ثقيلة من بينها البطالة المتزايدة بين صفوف المتعطلين عن العمل، والتي قفزت إلى مستويات قياسية لامست الخط الأحمر، والحد ما أمكن من مظاهر الفقر وتعزيز مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين، وأن تكف الحكومات عن عقلية إدارة الشركات التي لا ترتقي ولا تستقيم مع نهج إدارة الدولة، إذ اقتصر همها على كيفية التخطيط في الإجهاز على ما تبقى من سيولة في جيب المواطن التي شحّت بفعل سياسات اقتصادية معلبة ومستوردة لا تتكيف أو تتماشى مع واقعنا أو احتياجاتنا على مختلف الأصعدة.
لا يكفي أن تطالب الحكومات بتمتين جبهتنا لمواجهة أعداء الخارج وحسب ونحن مخترقون في الداخل بمحسوبيات ومزاجيات وتنفيعات وتغييب لقيم عليا أصابت جبهتنا في مقتل، فالفقر والجوع وغياب العدالة الاجتماعية لا يصب في خانة التمتين، ومن شأنه خدمة أجندات انتهازية مشبوهة تمرر سياساتها عبر بوابات التأزيم والعوز.
وفي الوقت الذي تستمر فيه الحكومات في نهج التضييق على المواطن ومحاصرته لا زالت تستغل بعض المنابر الإعلامية للحديث عن إنجازاتها المزعومة برغم عجزها الفاضح عن إحداث فرق في المعادلة الاقتصادية والتآكل المتواصل الذي اعترى جدران موازنة الدولة التي كانت تبنى وفق نظريات افتراضية لما قد يرد من منح وقروض وعدم وضع سلم لأولويات الإنفاق.
التسويف وصرف العبارات المخدرة لم يعد يجدي نفعا، وبات من البديهي البحث عن حلول عملية تتعدى كل عبارات الإنشاء والمفردات التقليدية، واتخاذ ما يلزم من إجراءات وتدابير وقائية تسهم في إعادة الألق والروح إلى مؤسساتنا، لكن ليس وفق توجهات صماء والاكتفاء بإطلاق تصريحات جامدة تدعو إلى الاعتماد على الذات دون أن تطرح أو تقدم بديل الاتكالية.